حرية التعبير في زمن السماوات المفتوحة

د. محمد بن عوض المشيخي **

حرية التعبير أثمنُ ما في هذه الحياة، وهي أغلى من كنوز الدنيا ومناصبها الرفيعة على الإطلاق، فالإنسان الذي يُحرم من هذا الحق الذي كفله ديننا الإسلامي الحنيف قبل ظهور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بألف وأربعمائة عام، يؤكد لنا بما لا يدع مجالًا للشك، أنه لا قيمة لنا في هذه الحياة دون حرية رأي مسؤولة، تنتهي بنا عندما تبدأ حرية الآخرين الذين يشاركوننا في الوطن؛ بل وفي الإنسانية، وهناك من يشبّه من تمَّت مصادرة حريته بالطير المذبوح.

الإنسان ليس المخلوق الوحيد الذي يعشق الحرية؛ بل كل الكائنات في هذا الكوكب تبتغي الحرية والاستقلالية؛ كالطيور وغيرها من المخلوقات. وتتفرع الحرية إلى مستويات متعددة، فتأتي حرية الإعلام بعد حُرية التعبير، وتعد الأخيرة أشمل وأثمن ما في هذا الكون. ومن هنا ظهر الصراع الأبدي بين الخير والشر منذ العصور المظلمة في أوروبا ومع ظهور نظرية سلطة الإعلام الرسمي، جرى توظيفها لخدمة السلطة الحاكمة وأصحاب النفوذ، وخاصة أعضاء الحكومات، من خلال إبراز الإنجازات، والتغاضي عن تجاوزاتها بأي طريقة كانت. ولكن لم تصمد هذه النظرية الأحادية طويلًا؛ إذ قامت الثورات في مختلف أجزاء القارة الأوروبية خاصة في فرنسا وبريطانيا، وكان الهدف الأساسي الذي قاده المصلحون أمثال: جان كاك روسو، الذي ألّف كتاب "العقد الاجتماعي" الشهير، وغيره من المفكرين في عصر النهضة الأوروبية المعاصرة حرية التعبير والعدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات.

وفي عصر السماوات المفتوحة وثورة الاتصال عبر أجيالها المتعاقبة وما حملته من تطورات مذهلة غيّرت معالم الخارطة المعلوماتية، وتدفقها بين القائم بالاتصال في وسائل الإعلام التقليدية من جانب، والمنابر الافتراضية التي أصبحت تسيطر على الساحة الإعلامية من جانب آخر. وهنا فقدت معظم الحكومات سيطرتها على منافذها الرقابية التي كانت من خلالها تراقب الكتب والصحف والأفلام وغيرها من الممنوعات من منظور سياسي وأمني. كما إن وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة، أصبحت من أهم المصادر الإخبارية للمجتمعات المعاصرة من خلال ما يُعرف بالمواطن الصحفي، الذي أُتيحت له المنصات الاجتماعية- خاصة العصفور الأزرق "تويتر"، الذي يطلق أكثر من 500 مليون تغريدة في اليوم- الفرصة للتعبير عن الرأي بعيدًا عن عيون الرقابة الحكومية.

محليًا تابعنا خلال الأيام الماضية وعلى غير المعتاد، السجال القائم بين بعض أعضاء مجلس الشورى، ووزارة الإعلام حول الأوامر الشفهية الصادرة من الوزارة بتوقيف الإعلامية خلود العلوي مُقدمة البرنامج الجماهيري "كل الأسئلة"؛ إذ يُعد البرنامج منصة حوارية ناجحة لمناقشة قضايا الوطن والمواطن من خلال استضافة المختصين والمسؤولين عن الشأن العام، ومناقشة هموم المجتمع بشكل عام. كما وجهت المديرية العامة للمطبوعات والمصنفات الفنية بوزارة الإعلام الإذاعات الخاصة بالتنسيق المسبق مع الأمانة العامة لمجلس الشورى قبل استضافة أعضاء المجلس في الشأن المتعلق بأعمال المجلس، مما أثار الرأي العام والعديد من أعضاء المجلس الذين طالبوا بعودة البرنامج ومذيعته.

كما إن مكتب مجلس الشورى ممثلا برئاسة المجلس، كان له رأي آخر حول الموضوع أعلاه؛ إذ أصدر بيانًا قال: "إنَّ الجانب التنظيمي الذي أشارت إليه السياسة الإعلامية لا يتضمن منع أصحاب السعادة أعضاء المجلس من المشاركة في البرامج الإعلامية، وتعاطيهم مع مختلف القضايا الوطنية، بما يحقق المصلحة العامة ويساهم في تعزيز دور المجلس وإبراز جهوده".

يبدو لى أنَّ الإعلام العماني يواجه تحديات غير مسبوقة تتمثل في عدة محاور؛ في مقدمتها سقف الحرية التي يجب أن يُمنح للإعلامين للمشاركة في تفسير وتحليل ومراقبة القضايا العامة في البلد، وعلى وجه الخصوص رؤية "عمان 2040" والتي لا مجال للإخفاقات والنكسات فيها بأي حال من الأحوال؛ لأن وضعنا لم يعد يحتمل مثل ذلك.

أحداث ومواقف الأسبوع الماضي، أجبرتني على الاطلاع مرة أخرى على أدبيات هذه الرؤية الطموحة التي نتمنى نجاحها خلال السنوات المقبلة، لكن يجب التوضيح هنا ونحن في العام الأول من تنفيذها، أن الإعلام لم يعطَ الأهمية مثل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، بينما الإعلام الوطني يتمحور دوره في تسليط الضوء على الجهود التي تُبذل في محاور الرؤية، وما تم إنجازه في تلك المجالات التي تدور بشكل خاص حول تنويع مصادر الدخل. ومن هنا نؤكد أن الإعلام يجب أن يكون شريكًا أساسيًا في التنمية، وناقدًا لأي إخفاقات أو تقصير من المسؤولين خلال العشرين سنة، عمر رؤية 2040.

الإعلام المحلي يواجه تحديات وجودية في الخروج من رقابة السلطة التنفيذية، فمعظم دول الخليج أصدرت قوانين وتشريعات تنظم العلاقة بين الحكومة والعاملين في قطاع الإعلام من كتاب وصحفيين، فلماذا لا تكون السلطنة في المقدمة؟ لا شك أن قطاع الإعلام بحاجة للتطوير في التشريعات والهياكل التنظيمية وقبل ذلك كله في التأهيل، والدعم المالي السخي من الدولة والقطاع الخاص للكوادر الإعلامية، وليس التوقيف ومصادرة الآراء التي لا تتوافق مع وجهات نظر بعض المسؤولين.

يجب أن يتذكر القائمون على الإعلام في هذا البلد العزيز أن هناك التزاما ومسؤولية اجتماعية لجميع الذين يعملون ويحاورون ويكتبون؛ بل وحتى الضيوف الذين يتحدثون في الشأن العام في البرامج الجماهيرية، وهذا ليس خوفًا من الرقيب؛ بل هي فطرة وسُنّة حسنة تميز فيها الشعب العماني عن غيره من الشعوب؛ فلا حاجة لنا بتوقيف المنصات الإذاعية التي أصبحت مثل الرئة التي يتنفس منها الجمهور، كما إن البدائل التي وفرتها التكنولوجيا باتت المنصات البديلة للشعب، فكلما رفعنا سقف الرقابة والتشديد على الرأي، نرجع بهذا البلد عقودًا إلى الخلف.

وفي الختام.. الأنظار تتجه إلى أصحاب الهمم العالية والعقول النيّرة، لكي تستلهم الرؤية السامية الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بمنح قطاع الإعلام ما يحتاجه من عناية وتطوير، خاصة في إصدار التشريعات التي تكفُل للجميع حقوقهم، فقد أكد جلالته في خطبه أنه الحامي والراعي الأول لحُرية التعبير وحُرية الصحافة في عماننا الغالية.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري