علي بن مسعود المعشني
في عام 1995 نشرتُ مقالًا بصحيفة الشرق القطرية كتبته بعنوان "مجلس التعاون الخليجي والممكنات المهدورة"، ضمنته أحلام وطموحات المواطن الخليجي وعشمه الكبير من قيام المجلس وفي المُقابل الممكنات التي أهدرها المجلس منذ إعلان إنشائه عام 1981، فما بين الأحلام والمطامح والممكنات فجوة عظيمة؛ حيث إنَّ الحالة الأولى رجاء في عالم الغيب، بينما الثانية موجودات ممكنة وقابلة للتحقيق.
قيام مجلس التعاون في الأساس وتجاوزًا لأي أسباب أمْلَتها الظروف والمستجدات الإقليمية والدولية، مثل قيام الثورة الإسلامية بإيران، جاء كمطلب طبيعي وضرورة وحاجة مُلحة للشعب العربي في الخليج نظرًا للتكامل والتناغم بين الشعوب ونظم الحكم ومنظومات وسياسات أقطاره، إضافة إلى وجود رصيد تاريخي لأقطار الخليج في التعامل مع شعوبها وثرواتها حيث كان حق التنقل والإقامة والعمل والتعليم والعلاج وغيرها من المزايا مكفولة ومُتاحة لأي مواطن خليجي مُقيم على أرض أي دولة خليجية منذ زمن تدفق النفط وظهور نواة الدولة العصرية في المنطقة. لهذا كان سقف الطموح والآمال مرتفعًا جدًا لدى المواطن الخليجي حين قيام منظومة مجلس التعاون، هذه المنظومة التي رُجي منها تعظيم المنافع وتعميق المكاسب الطبيعية والوشائج الفطرية بين أبناء الخليج وأقطاره.
اعتمد جيل الآباء المؤسسين من حكام أقطار الخليج في تسييرهم وإدارتهم للمجلس الوليد على نهج دبلوماسية القمة، هذا النهج المليء بالتورية والمجاملات وإظهار الرضا والمحاسن فقط، كما قدموا السياسة على كل شيء وأدخلوها في كل شيء في توصيات ورؤى المجلس، وبالنتيجة تعطل كل شيء وتراجع؛ بل وطال الأمر حتى المكتسبات التاريخية للمجلس وأبنائه من فرص عمل وتنقل وتعليم بعد تقنين كل دولة لمؤسساتها؛ حيث ظهرت فوارق كبيرة وامتيازات كثيرة بين المواطن والمقيم وعُد المواطن الخليجي مع المُقيمين، كما تم تسييس مؤسسات وهيئات وفعاليات كانت قائمة قبل قيام المجلس (طيران الخليج، جامعة الخليج، منظمة الخليج للاستشارات الصناعية، اتحاد تلفزيونات الخليج، دورة كأس الخليج العربي لكرة القدم، مركز الخليج للتراث) فنالها الكثير من صدى الصراع والخلافات والتنافس غير الرشيد للأسف، فتراجع المجلس كثيرًا وأخفق كثيرًا في تحقيق أهداف ميثاقه ناهيك عن قضمه التدريجي أو تعطيله للمكتسبات الموجودة قبله.
يضاف على ذلك- ومن باب الإنصاف- تعرض دول المجلس لأعراض أزمات سياسية إقليمية حادة شهدتها المنطقة ورمت بظلالها على سياسات المنطقة وهددت أمنها ومصيرها وكياناتها مثل الحرب العراقية الإيرانية واحتلال الكويت كمثال، فزادت المجلس بلة وغرقا في الشكليات.
سادت الساحة الخليجية فيما مضى عقلية البُعد الواحد وشعارها "من ليس معي فهو بالضرورة ضدي"، كما شاعت ثقافة الكبير كبير والصغير صغير والغني غني والفقير فقير، وبالنتيجة تكرست تلك الفوارق بين أقطار الخليج ولم تُجسّر تلك الفجوات لتحقيق التناغم والتشابه بينها لتيسير التعاون المثمر فالتكامل وصولًا إلى الاتحاد، كما لم تستخلص أقطار الخليج العبر من الأحداث المزلزلة من حولها لتقيم جيشا خليجيا موحدا أو منظومة لوجستية موحدة أو محكمة خليجية موحدة أو ميثاق شرف سياسي أو ميثاق شرف إعلامي يُنظم الخلافات بينها مستقبلًا ويساهم في حلها وحصرها في الحد الأدنى من الضرر على الأقل، لهذا كله وغيره بقيت منظومة مجلس التعاون وميثاقها أرشيف ذكرى جميلة بينما الواقع يدفع بنقيضها.
اليوم تستعيد شعوب المنطقة طرف خيط الأمل القديم مجددًا لقيام منظومة خليجية جديدة وفاعلة، بعقول عصرية شابة تفهم لغة العصر ومقتضيات السياسة وتقدم المصلحة على العاطفة وتستخلص العبر من عثرات الماضي، وبالنتيجة سنرى مجلس تعاون خليجي آخر، يُقدم منظومة الاقتصاد على السياسة، والدبلوماسية الشعبية على دبلوماسية القمة، ويترك السياسة ومفرداتها كشأن داخلي وقرار سيادي لكل دولة على حدة على قاعدة الاختلاف ثراء وتنوع خيارات.
أقطار الخليج اليوم تمتلك رؤى اقتصادية بعيدة المدى والرؤى أحلام ولكنها بمعايير الدول الحيوية الفاعلة قابلة للتحقيق، وتعلم هذه الأقطار أن الرؤى لا يمكن تحقيقها في ظل اقتصادات ريعية ترزح تحت رحمة سعر برميل النفط المتذبذب، ولا في نطاق جغرافيات صغيرة ومحدودة، ولا في ظل تعداد سكاني محدود، من هنا ولتحقيق هذه الرؤى وجني ثمارها فإنَّ الأمر يتطلب أولًا استغلال الوفورات المالية من النفط لتنفيذ سياسات اقتصادية توفر مصادر دخول غير نفطية وتؤسس لاقتصادات إنتاجية حقيقية، وذلك عبر استقطاب الاستثمارات وتشجيع قطاعي الصناعة والزراعة ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ولن يأتي كل ذلك بالنجاح إلا عبر الشراكة والتكامل مع الجوار الحيوي لكل دولة أولًا للحصول على الجغرافيا المناسبة والدعم اللوجستي والكثافة السكانية والقدرة الشرائية والتسويقية، وهذه العناصر تتوفر بالتكامل بين أقطار الخليج، حيث يمتلك كل منها مايُكمل الآخر، يُضاف إلى ذلك أهمية وضع سياسات وقوانين مرنة لتدوير العمالة الوطنية والخبرات الخليجية بين أقطار الخليج ومنح المواطنة الخليجية الواحدة الأولوية القصوى واللائقة في هذه المرحلة التأسيسية الهامة لبناء مستقبل واعد للمنطقة وأبنائها، وبهذا ستتحول أقطار الخليج من أقطار تتمتع بقوة مالية إلى أقطار تتمتع بقوة اقتصادية، وستنتقل من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد الإنتاجي المتنوع والمتعدد المصادر وستتحول كذلك من نهج دبلوماسية القمة بمجاملاتها إلى نهج الدبلوماسية الشعبية بمناعتها ومنافعها.
قبل اللقاء: من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه أن يعيد عثراته وأخطاءه.
وبالشكر تدوم النعم..