ناصر أبو عون
سارت قافلة الشيخ حمد بن عيسى الطائي المحملةُ هوادجُها بطموح المجد، وحاديها يستحث الخطى في مفاوز الزمن العنيد منشدًا، يقتطع أراجيزه من جبال الصبر والمروءة؛ لتحط في سهول الساحل الشرقي لعُمان، بعد أن جثم الدهر بكلكله على صدر آماله، وروّع أهله وعياله، وأمضّ جسده الذي خاصمته النمارق المترفة، وهجرته الطنافس المزخرفة في محبس الميجور براون في حاضرة البحرين، وصادقته صروف الزمان وعوائقه في مسراه ليلا، ويستظل بصحبته في هاجرة النهار، ويضرب أقداح المجاهدة حتى استوت قيظًا وألمًا، فطوى سغب الجوع على حجر الكرامة ما بين الكشح والخاصرة، واغترف غُرفةً من بحر الوطنية الهادر في دمه زادًا لرحلته، وارتشف من دنان الشجاعة رحيق ديمةٍ هطلاء فيها وطفٌ من (الغيم النشاص) الهاطلة على نطفته الكريمة فاستنبتت شجرة غيناء مورقة مثمرة أُكُلُها لا ينحسم، تفيأ ظلالها فلم تصبه مخمصة مجحفة، ولا عضَّ أصابع الندم البائسة.
ولأن يدَ القدر نصيرُ من يُصارع الغمرات فِداءَ وطنه ودينه، وباطشة ضاربة على أيد الجُفاة الطَغَام من مردة الإنس والجان، فقيّض لأطفاله شقيقه (حمود)، فأقامه في خدمتهم، وودّع الكرى في حراستهم، وأعانه اسعيًا مؤنتهم، وضرب له خيمة الطمأنينة على وسائدهم، ونصّبه حارسا على أحلامهم، فجعل من صدره وِقايةً وحرزا من المماذقين الكائدين، وخرج بهم في ضحضاح الشمس تحت عين الله الحارسة؛ وحملهم في معيته عبر البحر إلى دُبيّ ليجتمع شمل العائلة، وتهنأ الأنفس الملهوفة، وتهدأ نيران الفراق القادحة؛ (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
وصل الشيخ حمد بن عيسى بعد حينٍ إلى دبي، فانطفأت نيران القلق المستوقدة تحت أغشية صدره المستعرة ونفض عن جبينه دياجير المظالم، ونزع نصال العسس المتكسرة على نصال العيون المترصدة من جسده المثخن بفراق أهله، واستطلع القمر المنير في صحن خده؛ فأزهر وجهه بالبشائر، وتنسمت روحه رياحين الهدى واستصحب التفاؤل المعجون بماء الشكر، والمخبوز بحمد الباريء مُرسلِ النِّعَم، واستصبح في غبشة الأيام مصابيح الرضا، واستضوأ وجوه الحظ الباسرة، ومسح كمد الكرى عن عيون الليل الساهدة، ومشّط جدائل الأيام المشعّثة، ووطّن نفسه على طي صفحة الماضي.
كان الشيخ حمد بن عيسى الطائي يحمل في أصل بذرته، ونواة شجرته، ونطفة طينته بعضا من روائح السابقين الأولين الذين يصير التراب في أيديهم ذهبا، وإذا مشى على السابخة المالحة أنبتت من كل زوج بهيج؛ كان رجلا يألف ويؤلف، باب بيته لا صريف له، مفتوح على مصراعيه يقصده القاصي والداني، وله يدان لا تترب، لا يعرف الفقر إليهما طريقا؛ معوان لكل تَعِسٍ كَبَا به زمانه وعثرت به الخُطَى في حِلّهِ وترحاله؛ فلما نزل مع أولاده في حداثة عهدهم بـ(دبيّ) في منزلٍ بـ(سكة الخيل) اتخذوا من (أولاد منصور السليمي) – صاحب محل الحلوى العمانية الأكثر شهرةً في دبي والذي ما زال فاتحا أبوابه - جيرانا يأنسون بوصلهم، ويصلون رحمهم، وتنشرح بهم صدورهم، ومازال أولاده وعشيرته من بعد رحيله إلى الدار الآخرة على تواصل مع جارهم الصديق الحميم علي السيد- الذي مازال حيا يُرزق-؛ وحبل وصلهم به ممدود؛ فقد حفظ للشيخ حمد ودّه وأدام ذكره، واستمسك بحبل عهده، واستعصم بسيرته بعد مفارقته المكان، وغلبه الزمان وصعدت روحه إلى الباريء الرحمن، وطوى صفحته.
في دبي، ودّع الشيخ حمد بن عيسى الطائيّ الإبلاس، وشق قِراب الحزن واستفرغها من الخذلان والإفلاس، وألظَّ في الجدّ، وأماط عن سنان رحلته كل خاسيء ذليل، وكنس من دربه كل عقبة كؤود، وخاصم كل مستكبر عنيد كنود، واستفزّ نفسه من أرض الدّعة والركود، واستنهض روحه، فأمسك بأزّمتها، وأورى نار المجاهدة والمثابرة؛ فواصل الليل بالنهار، وجالس الأكياس العقلاء، وانصرم عن مصاحبة المكاثرة السفهاء، وفتح الله عليه فتوح العارفين، فكان المدير العام لـ(شركة معدات الخليج) ما بين عامي (1963 – 1968) خمس سنوات بالكمال والتمام قضاهن الشيخ مديرا عاما في شركة مواد البناء الكويتية المملوكة لتاجرين من الكويت هما: (جاسم القطامي والخنيني)، وكان حسن السيرة، سهل المعشر، دعدع المال على أهله وخاصته وذوي قرابته، وأصحابه وجيرانه، وكل من طرق بابه في حاجة؛ ينفقه ليل نهار فقد دخله اليقين أنّ الدنيا دخلت عليه وملأ منها كفيه بفضل عطاء الله الذي لا ينفد، لا يخشى الفقر فوصل خبره إلى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم إمارة دبي وقتذاك، على لسان أحد المستشارين الأصلاء وهو الفاضل أحمد بن سلطان بن سليم الأديب، فأنعم عليه بقطعة أرض في "المرقبات"، ثُمَّ تبجّس الخير بين يديه، واستفرغت ديم المنن الإلهية قراب الإعطيات في حِجره، وفرشت شجرة الكرمِ ظلالها على أهله وخاصته، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها لا تجف فروعها، ولا تتجلد ثمارها، ولا تنحسر ظلالها، ولا تهجرها غمامات الرضا.
ابتنى الشيخ حمد رَبْعًا واسعًا؛ تسرح في سُقُفه نجوم الرضا، وتُلتَمَس في جوانبه أزاهير السَّنا، وتُستفرَغُ في فيحائه قِراب المُنى، فصدحت تحت أفيائه أصوات الصغار، وكبرت أحلام الكبار وتغصّنت وأورقت وصارت أكمةً كبرى متداخلة الفروع متنوّعة الثمار.
أضحى ربعُ الشيخ حمد بعد طول لأيٍ مزارا لذوي القربى والأصهار والأصدقاء، ونزل عليه ضيفا الأخيار الأطهار من أهل مسقط وعُمان، واستضْوَأَ الصغار ببركات حَمِيهِ الشيخ يوسف بن سعيد بن ناصر الكندي، عندما حلَّ عليه مستطلعًا حاله، ومستبشرًا بكثرة عياله، ومعتبرًا بما مضى من أيامه، وناصحًا له في قادم أيامه.
في هذا الرَّبع المنتدح الفوّاح بالرضا أنجبت له حليلته العروب الولود الصبور؛ ثلاث فلذات أكباد زاهرة هم: صقر وناصر وخالد، وعاشت في كنفه هانئة مثمرة؛ هذه النخلة العُمانية الراسخة بجذورها في أرض عُمان الطيّبة، غير فاركة ولا شاكية، راضية غير ساخطة، لا تهتز عراجينها ولا يميل جذعها إذا ماجت المحن، لا تتوجّس خيفةً إذا تكاثرت وتتابعت الفتن، مَرَدَتْ على الصبر وإن جلجل الرعد، ركن شديد لا تفلّ في عزمها المحن، ولا يأكل من روحها الوهن، وإن أنشبت المنية أظفارها في صدر زوجها، تذبّ عن عرينه سهام الوغى، وتشدّ على يديه إذا الرَّوع سجى، وتحفظ عليه كل مَلَكَة، وتُنَحِّي عن طريقه كل هَلَكَة.
فلما ذاع صيته في الجد والأمانة، وحسن الإدارة والنباهة، ومعرفته بالفنون والآداب، واتساع ثقافته وتنوّع معارفه، تمّ استدعاؤه إلى إمارة أبوظبي عام 1968 ليعمل مستشارًا في دائرة الاقتصاد والمالية لمدة عامين في معيّة الوزير محمد حبروش السويدي نائب رئيس الديوان الأميري، ثم مستشارًا له في رئاسة دائرة المالية حتى عام 1970، ومعوانا أمينا عندا استوزروه للشؤون المالية والصناعة عام 1971.
أقام الشيخ حمد الطائي هذه الفترة في (بناية درويش بن كرم) بشارع (الشيخ حمدان بن محمد)، وكان مقدمه على أبوظبي فاتحة خير على شعوب حاضرة الخليج؛ حيث اجتمع المرحومان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والمرحوم الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم في أوائل شهر فبراير من عام 1968م، تمهيدًا لإعلان الاتحاد، وأعقب هذا الاجتماع دعوة مشتركة من الشيخين لمشايخ سائر إمارات الساحل الشرقي لسلطنة عُمان في دبي لثلاثة أيام متتالية (25 و26 و27 فبراير 1968)، تمّ بعدها الإعلان عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني من ديسمبر عام 1971.