بين الواقع والواقع تكمن الحقيقة

 

يحيى الناعبي

يعيش الإنسان حالة من البحث المُستمر عن الحقيقة المطلقة منذ النشأة الأولى، بالتالي تدرجت طريقة عيشه إلى ما وصل إليه في وقتنا الحالي عبر تطور في الفكر والثقافة والمعرفة بعموميتها. إنَّ حياة الإنسان عبارة عن ممارسة تتحول إلى قناعة ومن ثم إلى واقع يستخلص منه ما يعرف بالحقيقة المؤقتة لوجوده.

لقد عجزت الثقافات البشرية في رسم حقيقة مستمرة ذات قاعدة متينة مما جعل الإنسان يصبح رهينة التغيير. لذلك، وإن ظل متمسكًا ببعض الإيمان حول سلوكيات ومعتقدات معينة لا يعني ذلك أنه متمسك باليقين الكامل وإنما في الجزئية التي تتوافق مع مصالحه الفردية والمتسقة مع الحالة العامة (الاجتماعية) لمد جذور التواصل.

وطبيعة السلوك البشري منها ما هو متعلق بالظواهر العلمية، لذلك فإنَّ الدلالات على التحولات في السلوك ليست ثابتة وإنما تمثل ارتباطه بهذه الظواهر التي ترتكز على العلاقة مع مكوناتها ومحدداتها. إذن، المفاهيم والنظريات قامت لتخدم واقعاً معيناً، لكنها لم تكن ولن تكون الحتمية أو المطلقة، وهذا يحيلنا إلى التطور في قراءة الواقع ومعطياته واستنتاج ما يشبه الحقيقة. وبالتالي فإنَّ قراءة الواقع بمعطياته ومحتوياته المتعددة يختلف من وصف إلى آخر، فلكل فرد رأيه الذي يستند على مكونات أدواته والتي بالطبع قد تختلف عن الآخرين، ومن خلالها يرسم كل فرد واقعه الذي يمثل الحقيقة لديه حتى وإن اختلف عن الآخر، على أن يبقى ذلك ضمن إطار توافقي عام.

إن استقلال الفرد في مراقبته للواقع الذي يعيشه يضمن له التمييز بين السلوكيات المختلفة واختيار ما يناسبه ومعطيات حياته دون وصاية من سلطات الفرض compulsory powers؛ حيث إن هذه السلطات تولد الصراع الأزلي بين النمو الطبيعي لذهن الفرد وبين وهم البقاء على العادات أو الموروث الذي يمثل مستوى حياة توقف منذ زمن، ويختلف بحسب كل عادة أو موروث. هذا الصدام بين استقلالية الذهن الفردي وبين ما يسمى بالحفاظ على الموروث خلق الفوضى والتحايل، وخلق قوى متعددة تتزعم التفكير بلغة الأسلوب الجمعي من أجل طمس هوية الفرد ويؤدي إلى القتل التدريجي لجزيئات حواسّه من أجل سهولة انقياده نحو الغريزة القطيعية.

يقول نيتشه "إن الشاعر الذي يتقن الكذب عن وعي ومعرفة وحده القادر على قول الحقيقة"، ولم يكن نيتشه أول من استنتج ذلك؛ بل سبقته جاهلية العرب (ليس من الجهل وإنما من وصف المرحلة الزمنية لما قبل الإسلام)، فعندما أتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بالقول المُبين قالوا هذا شعر؛ لأنه أتى بالحقيقة التي بيّنت لهم الحق والصواب في ممارساتهم التي كانت تمثل زمرا ومجموعات تمارس موروث ضلال في حينها. لكن، هل نجا الإسلام الحالي من أن يتبع نفس التقليد الجاهلي في صراعه الدائر بين المذاهب والذي يعد أشد من الصراع بين الأديان؟! والتي بممارساتها تلك استطاعت أن تشوه الأهداف السامية للرسالة السماوية. تحول من دائرة التفكّر والتدبر، إلى دائرة التبعية المطلقة العمياء. من خلال قراءة الأحداث وتفسيرها فسوف ينتهي المآل إلى ما استقرت إليه شعوب الغرب والشرق الأقصى في فصله عن شؤون الحياة العامة. وهذه ليست دعوة؛ بل هي قراءة وتفسير، لما سوف تؤول إليه الأمور من خلال معطيات الحال والنهج الذي تسير عليه حياة البشر في هذه المجتمعات وما يتضمنه من ملابسات كثيرة.

عندما نتحدث عن واقع الإنسان العربي نجد أنَّه في ذيل القائمة الحقوقية، والغالبية يفسّر أن حق الإنسان ينحصر فقط في التمثيل السياسي وهذا ما جعل الأنظمة تضيق الخناق على حرية الفرد. لكن الواقع خلاف هذا المنظور السائد عن حقوق الإنسان؛ بل يتمثل في الحق الشخصي للفرد في استقلاليته في التفكير في طريقة عيشه والدفاع عنها بما يكفل له القانون. فلكل الدولة قوانين سنّت لحماية حق الفرد في فكره ونمط حياته التي تكفلها هذه القوانين. بينما الغريب في الأمر أن المطالبة بهذا الحق تمثّل تخوفا عند السلطة التشريعية التي سنّته، وبدلًا من أن تنمي وتغذي الأنشطة التي تساعد على تطور هذه القوانين لما يتناسق مع معطيات الواقع في حياة الأفراد، أصبحت تضيّق من رؤيتها وتماسكها وظهر ما يدعى بالخروج عن القانون والذي لم يعُدْ مبنيًا على قواعد واضحة لاتباعها.