في الجمال ووصفه

 

يحيى الناعبي

بعث لي صديق صورة قد التقطها بهاتفه المحمول معنونًا إياها "تفاصيل صغيرة"، وفي الحقيقة هي تفاصيل كبيرة، وأثر الجمال للصورة ينبع من علاقة المتلقي لمحتوياتها وزمن التقاطها.

مثل المعزوفة الموسيقية التي تختلف الذائقة حولها من مستمتع إلى آخر بحسب عمره ومزاجه الموسيقي واهتماماته وميوله وتراكماته الحياتية وعوامل كثيرة متعلقة بالمستمع وأخرى بالعمل الموسيقي والفني.

"تفاصيل صغيرة" هي لوحة التقطت قبيل شروق الشمس ومحتوياتها تكمن في حمار على سفح رابية أو جبل صغير غير شاهق العلو، وحمار آخر يقتات أسفل سمرة أو كما تسمى شجرة الأكاسيا. كان هذا الصديق يعلم أن هذه التفاصيل الصغيرة لها وقع في نفسي ولها أثر ناتج عن تراكمات مُتعلقة بالمكان وتفاصيله كجزء من المكونات الأولى في الحياة. بالرغم من علمه التام بالمشاهد اليومية التي أمر بتفاصيلها الساحرة التي لا يسع هذا الحيز البسيط من المقال وصفها من أدق التفاصيل إلى عموم الأحداث. الرحلة اليومية المليئة بالطبيعة التي خصص لها الإنسان وقته الكامل وجهده الدؤوب لتكون ملاذ بصره وتفكيره وحياته اليومية. وهذه المشاهد التي كنت أشكك في طفولتي صدقيتها وأنا أتابع حين تكون فرصة مشاهدة الأفلام الكرتونية والأفلام الحية متسائلا: هل يعقل أن يعيش الإنسان وسط هذا الجمال من طبيعة أضاف لها البشر رونقا جمالياً إلى الحيوانات والطيور الأليفة في نسيج متآلف؟ طبيعة تمدّ الإنسان بطاقة روحية تجعل لحياته معنى وحضورا، حين يحمله الأسى في ظروفها المعيشية المتفرقة. إنها المعجزة مثلما قال أبو حامد الغزالي "إن جميع المعجزات طبيعية، وإن الطبيعة كلها معجزة".

على الرغم من أن الصورة التي بعثها لي الصديق بمحتوياتها الجميلة تعيد للذكريات الألق، حيث كل شيء طبيعي برغم شح الموجود لكنّ ذلك لا يمنع من أن يكون للصورة حضور في النفس طالما أنها ساهمت في التكوين البصري الأول ومثّلت جزءًا من الحياة، مثلما قال مصطفى صادق الرافعي "إنّنا لن ندرك روعة الجمال في الطبيعة، إلاّ إذا كانت النفس قريبة من طفولتها ومرح الطفولة ولعبها وهذيانها".

بالرغم من جمال الصورة، إلا أن هناك منظر أثار الاشمئزاز، وهو وجود المخلفات المكونة من قارورتين من الحجم الكبير والتي يعبئ فيها على الأرجح مياه الشرب، كانت مرمية أسفل السمرة مثلما هي العادة في كلّ مكان هناك. فكانت بمثابة السهم في خاصرة الجمال الطبيعي.

 مع الأسف العميق، لم نستطع أن نهذب طبيعتنا البشرية في الحفاظ على اليسير من هذه الطبيعة، وأستطيع القول إن المجتمع بحاجة إلى أن تكون له وقفة أمام التشوه لأنه يعكس طبيعته الداخلية. منظر تلك المخلفات أثار حنقي في الكتابة حوله كموضوع منفرد. لكن حين خرجت من المكان المتواضع والجميل الذي أقيم فيه ورأيت الطبيعة في صباحها الفوّاح بكل هباتها آثرت أن يبقى الجمال هو موضوع المقال، لأبحث عن قصيدة ابن خفاجة الأندلسي التي يتغنى فيها بالطبيعة وهو الدؤوب على التغني بالطبيعة في قصائده، ليقول فيها بعد أن غلب الجمال لبّه:

يَأَهلَ أَندَلُسٍ لِلَّهِ دَرُّكُمُ // ماءٌ وَظِلٌّ وَأَنهارٌ وَأَشجارُ

ما جَنَّة الخُلدِ إِلّا في دِيارِكُمُ // وَلَو تَخَيَّرتُ هَذا كُنتُ أَختار

لا تَختَشوا بَعدَ ذا أَن تَدخُلوا سَقرًا // فَلَيسَ تُدخَلُ بَعدَ الجَنَّة النارُ

فالبشر هم البشر في كل مكان تبقى الثقافة تنمو مع بيئة الإنسان وتتجدد لو رغب في تجديدها. ومثلما قال ليوناردو دافنشي، " لا تقوم الطبيعة بخرق قوانينها مطلقا".

 ليس أروع من أن نذكر أنفسنا بالجمال في غدّونا ورواحنا، ونطلق للإبداع بما هو حسن وجميل، لأننا على يقين بأن النفوس التي هذّبت من طبيعة أمكنتها كانت جميلة وبالتالي استطاعت أن تجد من المستنقعات والأحراش أراض منبسطة وحدائق فزانت بهاء وأصبحت قبلة لكّل من يهمه أن تتغذى روحه بالجمال.

في مقال كتبه الصديق الشاعر طالب المعمري حول جمال الطبيعة وأهميته للعين ومدى ارتباط الخضرة وجمال الطبيعة للإنسان، كتب فيما معناه (ماذا لو عملت المؤسسة الرسمية في كساء الجبال من جهة المدينة بالسجاد الأخضر أو بما يسمى العشب الصناعي، في محاولة لتلطيف عين الناظر نحو تلك الجبال القاسية، .... إلى آخر المقال)، أذكر أننا تناولنا مازحين حول فانتازيا المقال، لكنه في حقيقة الأمر هي مخيلة خصبة للشاعر بلا ريب.