د. محمد بن عوض المشيخي
أيام قليلة تفصلنا عن العيد الوطني الواحد والخمسين المجيد، ذكرى 18 نوفمبر، هذه الذكرى الخالدة التي ستظل في قلوب وعقول أبناء هذا الوطن الغالي حاضرة ومتجذرة إلى الأبد، خاصة الذين عاصروا السنوات الأولى لبناء مؤسسات الدولة التي وُجدت من العدم؛ وذلك في مطلع سبيعنيات القرن الماضي؛ إذ كانت عُمان تعيش أحوال القرون الوسطى بما تحمله من تخلف وجهل وفقر، بينما كانت الدول المجاورة تستقيظ من سباتها وتنهض نحو مستقبل مشرق؛ حاملة رايات العلم والتنوير لأبناء الإنسان في الخليج العربي، خاصة الدول الشقيقة كالكويت وقطر والبحرين التي انتشر فيها التعليم مبكرًا في العشرينات من القرن الماضي.
هاجر العُمانيون إلى العديد من دول الجوار للبحث عن لقمة العيش أولًا، ثم الالتحاق بالمدارس للتحرر من الأمية والولوج إلى عالم الفكر والثقافة كل من استطاع إلى ذلك سبيلا. وكما يقال "دوام الحال من المحال"؛ فقد شاءت الأقدار الإلهية تغيُر ظروف الحياة نحو الأفضل وتيسير الأمور لهذا الشعب بقدوم قائد فريد، ارتبط تاريخ مولده ثم حكمه بالإنجازات الكبرى التي تحققت عبر عقود النهضة العُمانية المتجددة. إنه السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- هذا الزعيم الذي حمل على عاتقه بعث مجد الوطن من جديد، ورفعة شأنه بين الأمم ليُحلق به عاليا إلى مصاف الدول المتقدمة، من حيث انتهى الآخرون.
وقبل رحيل هذا الفارس إلى جوار ربه؛ لم تنسه أعوام العمل الدؤوب ولا سنوات المرض التي أنهكت جسمه؛ أن يختار للأمة من توسم فيه الخير والحنكة السياسية؛ ليحمل راية العمل الوطني من بعده، ويتولى الأمانة الثقيلة للمحافظة على إنجازات نوفمبر الخالدة، وما تحقق على أرض السلطنة بشكل عام من مشاريع تنموية ومكتسبات حضارية غطت كل زاوية من ربوع بلدنا الحبيب. وبالفعل كان حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بحق خير خلف لخير سلف. ولعل التوجيهات السلطانية التي سبقت هذه المناسبة الوطنية وتحديدًا خلال ترؤس جلالته لاجتماع مجلس الوزراء الموقر يوم 9 نوفمبر الجاري؛ دليلٌ واضحٌ على حكمة هذا القائد ووفائه لما وعد به أبناء شعبه؛ وذلك منذ خطابه الأول الذي تحدث فيه عن خارطة طريق لمستقبل مشرق يطل من جديد على هذا التراب المقدس، وكذلك المحافظة على المرتكزات الوطنية والاستحقاقات الاجتماعية للمواطنين.
لا شك أنَّ تلك التوجيهات الكريمة، وضعت النقاط على الحروف نحو تخفيف مُعاناة المجتمع العُماني، وإن كنَّا نتطلع إلى المزيد في قادم الأيام مع تحسن الظروف الاقتصادية وزوال جائحة كورونا. وقد تناولتُ في المقال السابق- الذي يعتبر هذا المقال تكملة له- أهمية ترقية الموظفين الحكوميين من أقدمية عام 2011 اعتبارًا من العام 2022، وكذلك التوجيهات المتعلقة بتثبيت سعر الوقود.
أما حديثنا في هذا المقال، فسيتمحور حول تأسيس جهاز أو وحدة مستقلة تتبع جلالة السلطان- أيده الله- مباشرة لقياس أداء المؤسسات الحكومية المدنية وضمان استمرارية تقييمها واقتراح آليات رفع كفاءتها، والتركيز بشكل خاص على قياس جودة الخدمات ورضا المستفيدين منها.
وتأتي هذه الخطوة المهمة في وقتها المناسب؛ فقد أصبح قياس أداء الأجهزة الحكومية من أهم المرتكزات المعتمدة في تطور الدول وتجويد عمل تلك المؤسسات الحكومية منها والخاصة، وعلى وجه الخصوص وضع الخطط الاستراتيجية لتطوير ومواكبة التطلعات المُتزايدة لدى الناس المستفيدين في هذا العالم المتغير الذي يتميز بسرعة الإنجاز وسباق محموم لكسب القلوب والعقول. ويُعد مفهوم قياس الأداء المؤسسي من المصطلحات الجديدة التي ظهرت في العقود الأخيرة، ويعرفها العلماء المختصون بأنها تعني "الجودة والتميز في تقديم الخدمات التي تقدمها الوزارات والهيئات الحكومية للمُستفيدين من هذه الجهات".
وبشكل عام تُعبر مقاييس جودة الأداء الحكومي عن مدى قيام الوزارات الخدمية بمسؤولياتها الاجتماعية نحو المجتمع ومدى توفيرها للخدمات العامة التي تؤدي إلى تحقيق الرفاهية والتقدم للمستحقين. ومن المعايير الاجتماعية التي يتم القياس على ضوئها معيار الصورة الذهنية لتلك المؤسسات لدى أفراد المجتمع، فالأداء المميز يلقى الرضا التام من الناس والعكس صحيح. لقد انتشرت في العديد من الدول الجادة في التطوير الإداري ومحاربة الفساد؛ ظاهرة ما يعرف بوضع معايير لقياس الجودة وتتمثل في البداية بالتعرف على المعوقات التي تواجه الأداء المؤسسي من خلال فريق ميداني يتولى التحقيق في الإجراءات المتبعة؛ ثم إجراء استطلاعات للرأي العام المحلي والوطني للتعرف على مدى رضا المستفيدين من تلك الخدمات التي تقدمها الوزارة المعنية والتي تخضع للتقييم، وأخيراً تحديد الإخفاقات والتحديات، من خلال وضع خطة واضحة المعالم لتقديم الحلول، للتغلب على نقاط الضعف ومعالجتها وتصحيح المسار نحو الأفضل.
لا ريب أنَّ القرارات التي تبنى على الدراسات العلمية والبحوث الميدانية تكون أكثر حكمة وواقعية، وتعتمد بالدرجة الأولى على أرضية صلبة تساعد صناع القرار على توفير الوقت والجهد والمال فضلاً عن اختيار أفضل البدائل لمواجهة التحديات التي تواجه العمل الوطني. وتكمن أهمية هذه الوحدة التي سوف تتولى تقييم الخدمات الحكومية؛ لكونها تتبع أعلى قمة هرم السلطة في هذا البلد العزيز، مما يكسبها قيمة مضافة وجودة عالية في ممارسات العمل الحكومي اليومي؛ وبمجرد الإعلان عن هذا الجهاز الواعد؛ فقياس الأداء المؤسسي سيصبح حاضرًا في قائمة الأولويات جميع المؤسسات الحكومية في السلطنة خاصة تلك التي تقدم خدماتها للمواطنين، إذ إن من أهم المهام والأهداف الأساسية لوحدة القياس التي سترى النور في القريب العاجل؛ التقييم المباشر لمخرجات العمل المؤسسي وتحسينه ومعرفة أسباب الإخفاقات التي قد تحدث في العمل الحكومي، وذلك من خلال إجراء التقييم الميداني لقياس الأداء الحكومي بهدف تجويد وتحسين الخدمات التي تقدمها الوزارات والهيئات الحكومية للمواطنين والمقيمين في السلطنة.
لقد اعترف بعض أعضاء الحكومة في العقد الماضي بوجود ترهل في بعض الوزارات الخدمية في السلطنة، إذ يسود شعور لدى معظم المواطنين بوجود قصور إداري ومالي في تلك المؤسسات الحكومية بسبب غياب الشفافية والمحاسبة، كما إن الروتين القاتل والبيروقراطية الممنهجة أصبحت منتشرة في الدوائر الحكومية والشركات الحكومية- وحتى الخاصة- على حدٍ سواء، وذلك على نطاق واسع، والمشكلة هنا لا تكمن في كبار المسؤولين فقط بل أيضًا يمارسها باتقان صغار الموظفين؛ على الرغم من وجود جهات رقابية عديدة يفترض أن تتولى رقابة المال العام وجودة الخدمات المقدمة للزبائن والمحتاجين لتلك الخدمات.
وفي الختام.. الكل يتطلع في قادم الأيام إلى هذه الوحدة أو الجهاز الواعد الذي أمر به قائد هذا البلد المعطاء أن يصوب إعوجاج بعض هذه المؤسسات والهيئات الحكومية التي هي في حاجة ماسة إلى تجويد خدماتها وتطوير منظومة العمل الحكومي وتبسيط الإجراءات في مختلف المحطات والمنافذ الخدمية، وخاصة مراعاة المستثمر الأجنبي الذي اعتاد أن يغير وجهته إلى الدول المجاورة بسبب التعقيدات غير المنطقية وغير المبررة في السلطنة.
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري