ناصر أبو عون
أمّا قبلُ: فور إعلان فوز العُمانية بدرية البدري بـ(جائزة شاعرة الرسول)، امتشق ثلة من الشعراء المستبعدين من حلبة السباق سيوف النقد من أجفان الغيرة والحسد، والبعض الآخر استلّ نصل خنجره من غمد الجهل بصنعة النقد وجوهره، ومن ورائهم جاء الذين كانوا لهم تبعًا فامْتَخَطوا أمشاطا من ألسنة حداد سلقوا بها القصيدة وجرّدوها من كل فضيلة.
والذي لديه فضلة من ذائقةٍ شعرية وتابع سباق الجائزة على مدار دوراتها الخمس المتعاقبة سيتبين له خيط الطبع من خيط الصنعة من الشعر؛ حيث كان الشعراء يأتون إلى «كتارا»، وهم يحملون فوق أكتافهم قصائد السابقين الأولين أنموذجا ومثالا يحتذيه يبني عليه ولا يتجاوزه يخشى الإتيان بالجديد أو الابتداع مخالفة للسابقين الأولين؛ فمنهم من تلفّع بُردة البوصيري قلبا وقالبا، وآخرون تمنطقوا بإزار أمير الشعراء روحًا ونظمًا، وغيرهم اقتفى أثر ابن الخيّاط في صوره ومعانيه شكلا ورسما، وبعضهم قفز في قارب نزار قبّاني مقتفيا أثره لفظا ونغما، والبعض الآخر ارتقى سُلَّم حسان ابن ثابت وتقلّد سيفه واستعار بيانه وامتطى أفكاره.
أمّا بعدُ: ففي هذه الدورة الخامسة جاءت بدرية البدري إلى «كتارا» بقصيدة حداثوية مفتوحة على تأويلات لا متناهية، فأعرضت ابتداءً بقلمها عن الأبحر الخليلية القصيرة، وأمسكت بمغزل البحر البسيط الموغل في الجديّة والوقار ونسجت صورها على أنوال تفعيلته الثنائية «مُسْتَفْعِلُنْ» و«فَاْعِلُنْ»؛ فتمكّنت من تضفير اللغة الشعرية وتضبير مفرداتها، وتركيب صورها، ولضم أفكارها دررا ساطعةً، وثريات منيرة في سماء المديح النبويّ، ثُمّ ابتدأت بإسقاط التصريع قصدًا أو سهوًا أو طبعًا- فالأمر عندنا سيان- وهو تقليد عربيّ يَعُدُّه الشطر الأعظم من النُّقاد- قُدامى ومحدثين- عُمدةً في معمار القصيدة؛ فأفلتت من الشِّراك المُفخّخة المنصوبة تحت المصاريع المصطنعة تقليدًا لا إبداعًا من عثرة «الإيطاء»، وكبوة «الإقواء»، وسقطة «الإكفاء»، وهنّة «الإجارة»، وكل ما يصيب القوافي من ابتلاءات لا يُرجى شفاؤها.
ولأنّ البدريّة امتلكت ناصية السرد الروائي عبر روايتين واقعيتين هما: «ما وراء الفقد» و«العبور الأخير»، اللتين تخففت فيهما من الافتتاحيات الوصفية الطويلة، فقد نجحت في حمل هذه الخبرة الأسلوبية إلى قصيدتها «قنديل من الغار»، ودخلت إلى بِنية النص مباشرة متنصلةً من عبءِ «التصاريع» و«الافتتاحيات المطوّلة» التي تستهلك الطاقة الشعريّة المختزنة. وهذا ردّنا على من تحامل على الشاعرة منتقدا قائلا: «لا يوجد مطلع نبوي قديمًا وحديثًا لم يصرع فغياب التصريع لا يليق بنص مديح نبويّ طويل» ولا أدري من أين أتى بهذا الحكم الجائر قولًا وفكرًا.
كما استفادت بدرية البدري في بناء معمار قصيدتها من فنون إبداعية حداثوية متنوّعة ومتعددة المشارب والتوجّهات؛ فاستدعت تقنية «المشهد السينمائي» وكان بمثابة الناظم والعروة الوثقى القابضة على الوحدة الموضوعية والخيط الرفيع الجامع للآلىء القصيدة، فلم تنفرط حبّاتها ولم تتشظَّ صورها. ولتحقيق هذه الغاية العظمى اعتمدت الشاعرة على آليات عديدة في تركيب فسيفساء النصّ فاستعانت بتقنية «المونتاج السينمائي» في تركيب مشاهد السيرة النبوية، ولجأت إلى فن «الكولاج» في تركيب أبنية الصور المتجاورة أفقيًا، والمتوالية رأسيًا من المطلع إلى القفل، ونجحت في «تضفير» المشاهد التصويرية في بناء وحدة «عضوية» متينة السبك.
ثم اعتمدت الشاعرة استراتيجية «التَّناص» للاستفادة من تمازج السياقات المتنوّعة للنصوص المتعالقة مأخوذةً برغبة عارمة في إنتاج «سياق جديد» وتوليد رؤية مغايرة للعالم، عبر استدعاء «القصص القرآني» إلى ساحة النص، من خلال اللقطات المقربة دامجة بين الزمان والمكان متكئة على «التناص غير المباشر» أو ما يُعرف بـ«تناص الخفاء»، وكان «الحوار التفاعلي» حاضرا بقوة مرتديا عباءة «المنولوج الداخلي» في سائر مقاطع القصيدة.
ومن أهم «آليات التناص» التي لجأت إليها الشاعرة، ما يُسمى بـ«التناص المباشر» في مطلع القصيدة وكان ذلك من باب الاستئناس بـ«المستنسخات النصية» احتفاءً بتراث السابقين من الشعراء الحداثويين في قولها: «اخلع جراحك» للشاعر السوداني (أبو ذر الغفاري) من قصيدته التي قال فيها: «اخلع جراحك لا تمل/ وارفع صلاة الاحتجاج بلا وجل/ وارفع يمينك واليسار/ لهم/ وقل/ سبحانك اللهم».
وقد خطَّأتْ إحدى الناقدات البدرية في قولها: «[نصفان إنّي]، ولا نصفٌ يُؤازِرُني/ والخوفُ جفنٌ على بعضِ الرجا انْسدلا»؛ متعللة بتقديمها خبر [إنّ] (نصفان) على «إنّ الناسخة واسمها» محتجّة بـ«إن وأخواتها»، تدخل على «أسماء الصدارة» ولا يجوز تقديم الخبر عليها، والناقدة هنا عرفت شيئًا وغابت عنها ما أورده ابن السّراج في كتابيه «الأصول في النحو» و«شرح كتاب سيبويه» بجواز «الابتداء بالنكرة» «فمتى حصلت الفائدة في الكلام، جازَ الابتداء بالنكرة»؛ فضلًا عن قول الكوفيين: «إن» وأخواتها لا تنصب الاسم ولا ترفع الخبر «جريًا على القياس في حطّ الفروع عن الأصول».
أمّا القول إن البدريةَ نافست الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض خصائصه، بنسبتها للذات الشاعرة بعض هذه الخصائص في سياق متوالٍ عبر اختيارها ألفاظ مثل: «الوحي، السدرة العليا، المسرى» في قولها: «اخلعْ جراحَكَ بالسطرِ المُقدَّسِ، لا/ يصدَّك الذنبُ عن وحيٍ بكَ ارتحلا»، وقولها: «واصعد إلى السدرةِ العُليا بلا حَذَرٍ/ من دافِقِ العشقِ، إنْ ناداكَ وانهملا»، وقولها: «أتى تسيلُ ذنوبُ الأرضِ من دمِهِ / ما ضَلَّ مسراهُ، لكِنْ بالرؤى شُغِلا»، فنرد بأنه يمكننا القول إن «قنديل من الغار»، نصٌّ حداثوي جاء متدثرًا بخبرة السرد الروائي التي امتلكت ناصيتها الشاعرة وتتداخل فيه الشخصيات ويتمتع بمرجعية تحيل القاريء إلى عالم جديد خارج خيمة اللغة، ويفضي إلى عوالم شتى غير لفظية؛ فضلا عن تقمّص النَّاصّة شخصية الرسول، وتلبّسها بها، واستلهامها سيرته، وخلعها كل الأقنعة الصورية.
لقد تجردت البدرية من العوالق الملتبسة والمبهمة والمترسخة في ذاتها التي راكمتها المناهج الدراسية والحكايات الشعبية، وتداخلت كيميائيًا وذابت كليًا في الحقبة التاريخية للسيرة النبوية أثناء كتابة النص والذي نعتقد أنه تمّ إنتاجه على مراحل متعددة وفترات زمنية متباعدة.. هذا والله أعلم.