الاستثمار في الشباب

 

سيف بن ناصر السعدي **

هنالك مقولة متداولة حول الشباب وهي أن الشباب هم عماد الأوطان وهي مقولة واقعية جدا تعني أن المجتمعات والدول على اختلاف انتماءاتها واتجاهاتها ترتكّز على الشباب في تقدمها وازدهار اقتصاداتها. من الملفت للنظر، أنه في الوقت الذي تنظر فيه الدول التي توصف بأنها فتية بقلق إلى اتساع فئة الأعمار الشابة في الهرم السكاني الخاص بها، تنظر الدول التي تفتقر إلى مثل هذه التركيبة السكانية إلى الشباب على أنهم فرصة وهِبة تستثمرها لصالح بناء اقتصاداتها القوية. هكذا فعلت على سبيل المثال ألمانيا عندما فتحت الأبواب للمهاجرين من الشرق الأوسط مستثمرة الشباب منهم في خدمة وتقدم الاقتصاد الألماني المتلهف للسواعد والعقول الشابة.

في عمان لا ينقصنا الاهتمام بفئة الشباب فعمان كقيادة من بين أسبق دول الخليج العربية التفاتا نحو الشباب حيث حدد السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- عام 1983 عاما خاصا للشبيبة محتفيا بهم ومدركا لدورهم الكبير في بناء عمان واقتصادها مرروا بإنشاء الهيئات واللجان الوطنية الخاصة بالشباب وتخصيص يوم وطني لهم، ومؤخرا تفضل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بإنشاء وزارة معنية بالشباب مع المجالات الأكثر ارتباطا بهم وهي الثقافة والرياضة. ما تحتاجه السلطنة اليوم هو العمل على إشراك الشباب في الحقل الاقتصادي والتنموي على مستوى المحافظات والولايات والعمل بمنطق الاستثمار الحقيقي لهذه الطاقات البشرية التي هي في أوج ما تكون من عطاء في سني أعمارها، وهذا ما يبدو أن رؤية عمان 2040 تسعى لتحقيقه.

إن من ضمن أكثر الموضوعات المطروحة عالميا اليوم في مجال تمكين الشباب، هو مصطلح الاستثمار في الشباب وهو يعني ببساطة أن تخصيص المزيد من الأموال في البرامج والخدمات المقدمة لفئة الشباب خصوصا في أعمارهم المبكرة من قبل الدولة والقطاع الخاص يوفّر على الدولة النفقات المخصصة لحل المشاكل المرتبطة عادة بهذه الفئة كالبطالة والإدمان والجرائم والميل للعنف ويحسّن كمحصلة نهائية تبعا لتلك السلوكيات الإيجابية للشباب بما يرفع من مساهمتهم في النمو الاقتصادي للدولة. يعتبر هذا الأمر مهما جدا في أدبيات التنمية وإهماله قد يعيق النمو الاقتصادي في أي دولة، فمثلا يشير أحد التقارير الصادرة من مبادرة الشباب بالأمم المتحدة إلى أنَّ السلوكيات السلبية للشباب في منطقة الكاريبي وأمريكا اللاتينية تحد من النمو الاقتصادي السنوي لتلك الدول بنسبة تصل إلى 2% تقريباً نتيجة لسوء الاستثمار في الشباب.

عمان دولة معدل نموها السكاني السنوي مرتفع، بفضل تزايد نسبة المواليد الذين يشكلون مع الوقت فئة الشباب مما يعني المزيد من الصرف على هذه الفئة وتأمين الوظائف والبرامج المخصصة لها مستقبلا. ولا يمكن إنكار العامل الديموغرافي في وضع التحديات أمام استثمار الشباب في التنمية والازدهار الاقتصادي في الدولة، ولكن يمكن تحويل هذه التحديات إلى فرص إذا ما تم توجيه بوصلة التنمية من مجرد تعليم تقليدي مدرسي أو جامعي إلى تعليم مرتبط بالمهارات مع دراسة وافية لمستقبل وتحولات السوق العالمي وآفاق التشغيل الوطنية حتى يمكن تحقيق الاستثمار الأمثل في الشباب. إن أي سياسة مالية واقتصادية سليمة لأي دولة تعتمد بالدرجة الأولى على قراءة صادقة ودقيقة للمؤشرات الاجتماعية والديموغرافية في المجتمع. فالإسقاطات السكانية مثلا يمكنها أن تتوقع حجم الفئات العمرية للمجتمع خلال سنوات قادمة ما يعني أن على الدولة من الآن أن تحدد المتطلبات التنموية خلال تلك السنوات وأن تعدّ أطفال اليوم ليتبوءُوا مواقع الشباب في سوق العمل لاحقًا.

الاستثمار في التدريب المهني والمهاري المبكر للشباب يمكن أن يحفّز بشكل كبير على دخول الشباب إلى سوق العمل بشكل أسرع مستقبلا. فمشكلة الباحثين عن عمل تعاني منها معظم دول العالم بما فيها الدول المتقدمة غير أن تلك الدول تسعى وبدرجات متفاوتة إلى التغلب على هذه المشكلة بالاعتماد على سياسات وخطط محدّثة وحيوية ومرنة لجعل الشباب لديها أكثر توافقا مع متطلبات السوق ليس المحلي فقط بل وبشكل متوازٍ العالمي أيضا. هذه السياسات ترتكز على مراجعة دائمة ونشطة للمناهج المدرسية والجامعية، وعلى حزم من البرامج التدريبية المعززة المرتبطة بنتائج الدراسات الاستشرافية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وعلى تمهيد الأرضية المؤسسية الداعمة للابتكار واستثمار الأفكار الخلّاقة للشباب وتشجيع الشركات على تحمل مسؤولياتها في دعم وتحفيز واستثمار مشاريع الشباب الجامعية والمُستقلة.  

من الأهمية بمكان أيضاً الالتفات إلى تعزيز القيم الاجتماعية للشباب بما يتوافق مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية الحالية والمستقبلية والخطط والاستراتيجيات الوطنية المختلفة التي تستهدفهم. وأن تكون إدارة التغيير الثقافي والقيمي ضمن أولويات هذه الاستراتيجيات إذ لا يمكن تحقيق أي نتيجة ما لم تتغير القناعات المُعيقة لدى الفئات المستهدفة وهذا التغيير ينبغي أن يبدأ منذ الصغر في المنزل والأسرة قبل المدرسة أو أي مؤسسة اجتماعية أخرى.

** كاتب وباحث في علم الاجتماع

تعليق عبر الفيس بوك