الاستثمار في التعليم المبكر

سالم البادي "أبومعن"

التربية والتعليم وجهان لعملة واحدة وهذا يعني أنهما متلازمان ومتكاملان، فالتعليم يهدف إلى تزويد الفرد بالمعرفة والمهارات بينما التربية تهدف إلى تنمية الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والشخصية وغرس القيم والمبادئ والسلوكيات للأفراد، وكلاهما ضروريان لتكوين شخصية متوازنة وناجحة في المجتمع.

"التعليم المبكر" هو حجر الزاوية لمستقبل مشرق، ويُعرف برعاية الطفولة المبكرة، كما أنه ليس مجرد تهيئة للأطفال لدخول المدرسة ولكن في نفس الوقت استثمار في مستقبلهم ومستقبل المجتمع ككل.

ويبدأ هذا النوع من التعليم عادةً من سن الولادة وحتى سن دخول المدرسة، أي حوالي ست سنوات، ويهدف إلى تنمية القدرات الجسدية والعقلية والاجتماعية والعاطفية للأطفال في سنواتهم التكوينية.

التعليم المبكر تلك الفترة الحاسمة في حياة الطفل، يمثل حجر الأساس في بناء شخصيته وتنمية قدراته، ويعتمد "التعليم المبكر" على عدة مبادئ أساسية أولها، التركيز على الطفل ككائن فريد ومميز، مع احترام قدراته واهتماماته. ثانيها، توفير بيئة آمنة ومحفزة تشجع على اللعب والاستكشاف والتجريب. ثالثها، تعزيز التعاون بين الوالدين والمعلمين والمجتمع، لخلق شراكة فعالة لدعم نمو الطفل.

أما عن أهداف التعليم المبكر، فهي متعددة ومتكاملة تهدف إلى تنمية الجوانب المعرفية، من خلال تعزيز مهارات التفكير وحل المشكلات، كما تهدف إلى تنمية الجوانب الاجتماعية والعاطفية، من خلال تعليم الأطفال كيفية التفاعل مع الآخرين والتعامل مع مشاعرهم، بالإضافة إلى ذلك تهدف إلى تنمية الجوانب الجسدية، من خلال تشجيع الحركة والنشاط البدني.

أما عن فوائد "التعليم المبكر" متعددة ومتشابكة، على الصعيد الفردي، يعزز التعليم المبكر النمو المعرفي للأطفال، مما يساعدهم على تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات. كما يعزز المهارات الاجتماعية والعاطفية، مثل القدرة على التعاون والتواصل والتعاطف، مما يساعدهم على بناء علاقات صحية والتكيف مع بيئات مختلفة، وبالإضافة إلى ذلك، يعزز التعليم المبكر الثقة بالنفس والتقدير الذاتي، مما يسهم في تكوين شخصيات قوية ومستقلة.

علاوة على ذلك، يعزز التعليم المبكر التنمية الاقتصادية، حيث يسهم في بناء قوة عاملة ماهرة ومؤهلة، قادرة على المنافسة في سوق العمل.

تتصدر عالميًا فنلندا، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وتتربع فنلندا على القمة، محققةً إنجازات باهرة جعلت نظامها التعليمي نموذجًا يحتذى به عالميًا.

فما السر وراء هذا النجاح؟ وكيف تمكنت فنلندا من تحقيق هذه الطفرة؟

بدأ العمل بنظام التعليم الفنلندي الحالي في السبعينيات، مع التركيز على مبادئ أساسية شكلت حجر الزاوية في هذا النجاح. وأول هذه المبادئ هو الثقة بالمعلمين، فهم يتمتعون بمكانة مرموقة في المجتمع، ويخضعون لتدريب مكثف وشامل، ويتمتع المعلمون بالاستقلالية في اتخاذ القرارات التربوية داخل الفصول، مما يشجعهم على الإبداع والابتكار.

بالإضافة إلى ذلك، يولي النظام التعليمي الفنلندي اهتمامًا كبيرًا بالتقييم المستمر، ولكن ليس من خلال الاختبارات التقليدية. بل يعتمد على الملاحظة المستمرة للطلاب، وتقديم الدعم الفردي لكل طالب حسب احتياجاته، ويمثل نظام التعليم الفنلندي قصة نجاح عالمية، تجسد رؤية ثاقبة للتعليم، إنه نظام يهدف إلى تنمية مهارات الطلاب وقدراتهم ليصبحوا مواطنين صالحين فاعلين ومبدعين في المستقبل.

تتنوع أساليب التعليم المستخدمة في التعليم المبكر، وتشمل: اللعب: يعد اللعب الحر والمنظم أساسيًا لتعلم الأطفال وتطورهم، القصص والروايات: تساعدان في تنمية الخيال واللغة، الأنشطة الفنية: مثل الرسم، والنحت، والفنون تعزز التعبير الإبداعي، الاستكشاف والبحث: يشجعان على الفضول والتفكير والتعلم من خلال التجربة، التعاون والمشاركة: يتم تشجيع الأطفال على العمل معًا كالفريق الواحد، وتبادل الأفكار، والتعلم من بعضهم البعض، التعلم القائم على المشاريع: حيث يعمل الأطفال على مشاريع ممتدة، مما يعزز التفكير النقدي وحل المشكلات، التعليم الموجه: يقدم المعلمون الدعم والتوجيه للأطفال، مع مراعاة احتياجاتهم الفردية.

التعليم المبكر بمثابة الأساس الذي يبني عليه الأطفال تعلمهم في المستقبل، فهو ليس مجرد فترة للعب والرعاية، بل هو وقت حاسم لتنمية مهاراتهم المعرفية والاجتماعية والعاطفية.

أهمية التعليم المبكر كـ "نواة" للتعليم الشامل: التهيئة للمدرسة: يساعد التعليم المبكر الأطفال على التأقلم مع بيئة المدرسة، وتعلم كيفية التفاعل مع المعلمين والأقران، والتعود على الروتين المدرسي، تنمية المهارات الأساسية: يتعلم الأطفال في مرحلة التعليم المبكر القراءة والكتابة والحساب، وهي المهارات الأساسية التي يحتاجونها للنجاح في المدرسة، وتطوير المهارات الاجتماعية والعاطفية: يتعلم الأطفال كيفية التعاون مع الآخرين، والتعبير عن مشاعرهم، وحل النزاعات، وهي مهارات ضرورية للنجاح في الحياة، تعزيز الثقة بالنفس: يساعد التعليم المبكر الأطفال على بناء ثقتهم بأنفسهم، وتشجيعهم على استكشاف قدراتهم، والتعبير عن أنفسهم، توفير فرص متساوية: يوفر التعليم المبكر فرصًا متساوية لجميع الأطفال، بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية والاقتصادية، لبدء رحلتهم التعليمية على قدم المساواة.

أخيرا.. "نظام التعليم المبكر" هو استثمار حاسم في مستقبل أي دولة، إنه بمثابة اللبنة الأولى أو الأساس الذي يبني عليه الأطفال مهاراتهم الاجتماعية والعاطفية والمعرفية. من خلال توفير رعاية وتعليم عالي الجودة في سنواتهم الأولى، يمكن أن نضمن أن الأطفال يدخلون المدرسة وهم مستعدون للنجاح.

ويساعد التعليم المبكر على سد الفجوات بين الأطفال من خلفيات مختلفة، لأنه غالبًا ما يواجه الأطفال -من الأسر ذات الدخل المنخفض أو أولئك الذين ليس لديهم إمكانية الوصول إلى موارد جيدة- تحديات وصعوبات عند دخولهم المدرسة، لذا يمكن للتعليم المبكر أن يوفر لهم البيئة الداعمة التي يحتاجونها للنجاح، مما يمنحهم بداية عادلة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون للتعليم المبكر تأثير إيجابي على الاقتصاد. وتظهر الأبحاث أن الأطفال الذين يشاركون في برامج التعليم المبكر هم أكثر عرضة للتخرج من الصف الثاني عشر، والحصول على وظائف، والمساهمة في خدمة المجتمع، وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى قوة عاملة أكثر إنتاجية واقتصاد أكثر ازدهارًا.

ولذلك فإن الاستثمار في التعليم المبكر ليس مجرد شيء جيد للأطفال، بل هو استثمار حكيم وناجح ومبهر للمستقبل.

الأكثر قراءة