لابوبو

سعيد بن حميد الهطالي

saidalhatali75@gmail.com

 

في أحد المراكز التجارية، وقفت طفلة لم تتجاوز السادسة من عمرها، تشّد طرف عباءة أمها بإلحاح، وتقول بلهفة: أريد لابوبو.

لحظة قصيرة لكنها تختصر قصة طويلة، كيف عرفت تلك الصغيرة اسما غريبًا لدمية لم تلمسها من قبل؟ ما الذي جعلها تطلبها بتلك اللهفة؟

هل هي الرغبة؟ أم الحاجة؟ أم الإيحاء الخفي الذي تسلل إليها عبر الشاشات قبل أن تلتحق بالمدرسة الابتدائية؟

في زمن تتسارع فيه الصيحات وتسوق فيه السخافات على أنها "ترندات عالمية"، ظهرت على السطح دمية صغيرة تدعى "لابوبو" ملامحها غريبة، عينها زائغة، وتصميمها كأنّه خطف من كابوس كرتوني.

ومع ذلك، اجتاحت هذه الدمية الأسواق والمنصات، وارتقت لتصبح موضة رائجة، يتسابق لاقتنائها المشاهير قبل المراهقين، وكأنها تميمة حظ أو مفتاح للانتماء إلى مجتمع "الكول" العصري!

من هي لابوبو؟ ولماذا كل هذا الجنون؟

أخذني فضولي المعرفي للتقصي عن أمر وحقيقة هذه الدمية الغريبة المسماة "لابوبو" التي تسللت إلى واجهة المشهد، وفرضت حضورها الغريب على المنصات والمتاجر، وعلى مكاتب المشاهير وحقائب المراهقين، وكأنها قطعة من الفلسفة الحديثة أو أيقونة ثقافية عميقة الدلالة!

ففتحت محرك البحث (جوجل) وشرعت في طرح أسئلتي، ليجاوبني:

"بأنها شخصية ابتكرها الفنان الصيني كاسينغ لونغ، واشتهرت عالميًا بعد تعاونها مع متجر "بوب مارت" المختص ببيع الدمى والمجسمات. ورغم أنها مجرد لعبة بلاستيكية لا تنطق ولا تتحرك، إلا أن أسعارها تجاوزت المعقول؛ فبعض النسخ المحدودة تُباع بما يزيد عن 200 دولار، في حين تتراوح أسعار النسخ العادية بين 25 إلى 80 دولارًا، أي ما يعادل 10 إلى 30 ريالًا عمانيًا تقريبًا!".

ولأن "الموضة" اليوم لا تحتاج إلى منطق بقدر ما تحتاج إلى مشاهدة وتسويق، فقد ظهرت هذه الدمية في يد المشاهير العالميين، وتباهت بها العارضات على "تيك توك"، ليتحوّل الأمر من مجرد لعبة إلى رمز اجتماعي يعبّر عن "الذوق" و"الحداثة"، وياذا العجب!

ولم تكن الشعوب العربية بعيدة عن هذا الجنون، فمثلها مثل كل صيحة انتقل الهوس إلينا بسرعة، وتحولت "لابوبو" إلى رمز لا يقل شأنًا عن أحدث الهواتف أو العطور الفاخرة! فصرنا نراها في مكاتب الموظفات، وفي حقائب المراهقات، وعلى رفوف البيوت، حتى خيل إلينا أن اقتناءها أصبح واجبًا حضاريًا لا مفر منه.

وفي خضم هذا الهوس، يغيب سؤال مهم: من يدفع الثمن؟ فتكون الإجابة بلا شك: الوالدين، وبالأخص الأب الذي يرهق نفسه ماديًا ليرضي طفله بدُمية لا تفيد، لا لشيء إلا لأن "الكل اشتراها".

فتخيل أسرة محدودة الدخل تقتني دمية بـ 30 ريالًا، أو أقل أو أكثر فقط لتُرضي فضول طفل رأى إعلانًا أو مقطعًا على "اليوتيوب"!

وحين تتكرر المطالب، وتتراكم الصرعات، تصبح هذه "الترندات" عبئًا ماديًا ونفسيًا لا يستهان به.

لنصل إلى السؤال الأهم: أين دور الأسرة الذي يقع تحت عاتقها مسؤولية تربوية عظيمة؟

مسؤولية لا تقتصر على توفير الاحتياجات المادية، إنما تمتد إلى بناء وعي الطفل وتحصينه فكريًا وتربويًا، وتربيته على التمييز بين الحاجة الحقيقية والرغبة المصطنعة، بين الذوق الأصيل والموضة الزائفة.

فالأسرة الواعية لا تكتفي بمنع أبنائها عن التقليد، لكن بزرع الثقة فيهم، ليكونوا أصحاب شخصية مستقلة، ناقدين لما يعرض أمامهم لا مجرد نسخ مكررة تذوب في سيل "الترندات".

على الأب والأم أن يكونا الوعي الذي يقف في وجه "القطيع الرقمي"، وألا يسمحا للتطبيقات والنجوم الوهميين أن يقودوا أطفالهم نحو استهلاكٍ أجوف.

ما يحصل اليوم ليس مجرد ولع بلعبة، بل هو انعكاس لحالة فكرية يعيشها الجيل الجديد، حيث تغلف التفاهة بورق لامع وتباع على أنها "فن"، ثم تتسابق لها الجماهير دون أن تتساءل عن الغاية أو المعنى.

ومن المؤلم أن يصبح الانجذاب إلى لعبة بلا هدف أقوى من الانجذاب إلى كتاب، أو فكرة، أو حتى حوار أسري مثمر!

لابوبو ليست سوى مثال، وما أكثر الأمثلة!، ولن تكون الأخيرة، فالعالم الرقمي ينجب كل يوم صيحة جديدة، وشكلًا آخر من أشكال الهوس الجماعي،"لابوبو" ليست القصة، هي عنوان صغير لقصة أكبر عن استهلاكنا المفرط، وغيابنا التربوي، وركضنا خلف كل صيحة دون أن نتوقف قليلًا لنسأل أنفسنا: من يقودنا؟ ولماذا؟ وإلى أين؟

تأكيد أخير: الحصانة الحقيقية تبدأ من داخل البيت، من لحظة رفض واحدة، من توعية هادئة، من نقاش مفتوح مع الأبناء.

نسأل الله السلامة والعافية في قادم الأيام، فما زال في جعبة العالم الكثير من "اللابوبوات"، وما زالت العقول بحاجة إلى من يوقضها لا من يصفق لها!

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة