تفكير سياسي عميق في مسارنا المالي

 

 

دعونا نتأمل في هذا المشهد الثنائي: ارتفاع الدعم الحكومي لقطاع النظافة في صلالة إلى أربعة أضعافه تقريبًا بعد خصخصته، مقابل خفض تدريجي وملموس في الإنفاق الاجتماعي، وهنا نسجل زيادة مليونية بعد الخصخصة، علماً بأنَّ قطاع النظافة ما هو إلا نموذج من عدة نماذج مُشابهة رصدناها، وما لم نرصده ربما أكبر وأكثر، وهذا لن يستقيم مع سياستي الترشيد والترشيق اللتين يتحملهما المواطن لوحده، وكان بالأحرى أن تغطي هذه الأموال المليونية النقص في خزينة الدولة، وتخفف بالتالي الضغوطات المالية على المُجتمع.

لماذا لم يُقترب إليها حتى الآن؟ ولماذا يتم التركيز على الجبايات فقط؟ التساؤلان بالمقدمة سالفة الذكر، يعكسان طبيعة الخلل في تطور مفهوم الدولة من خلال إدخال إصلاحات لإعادة ترتيب المال العام، وإصلاح هياكل الدولة، وتنويع الاقتصاد، وتطوير المجتمع، فبشيء من التفكير العميق، وقفت على المآلات التي ستنتجها الجبايات في صورها الراهنة حتى الآن، وسننطقها بكل شفافية بهدف العلم بها أولًا، ولدواعي المعرفة بخلفياتها وبمصائرها السياسية والاجتماعية والأمنية، وقد مهدت لهذا المقال بتغريدة على تويتر ضمن سلسلة تغريدات معنونة باسم "في العمق" كتبت فيها الآتي:

"رفع الحكومة يدها عن الإنفاق الاجتماعي سيكون من بين الأخطاء الاستراتيجية الكبرى مهما كانت الرؤية لمستقبل الدولة، فلابُد من بقائه- أي الإنفاق الاجتماعي- لكن بصورة مدروسة، وليس كما كان سابقًا، فالخيار الليبيرالي الذي تنتجه مرحلة الجبايات بصوره الراهنة، سيضرب الأمان الاجتماعي في عمقه، مُقابل زيادة الاعتماد على الحلول الأمنية، وهي ليست الحل"، واختتمت التغريدة بالقول "من أجلك يا وطني أقدم هذا العمق الشفاف".

وتلكم رؤية عميقة لتداعيات المسار المالي؛ فخيار الجبايات والسياسات المالية وبعض القرارات، كقرار خفض الأجور، وتحديد الحد الأدنى للأجور عند 325 ريالًا وإلغاء ربطه بالمؤهلات، تنسخ النيوليبيرالية بصيغتها الغربية، وستقضي بلا رحمة على الأبعاد الاجتماعية، وهذه هي الانعكاسات المباشرة لخيار الجبايات، ومن المؤكد أنها ليست مستهدفة سياسيًا. ومن هنا أتناولها بهذا العمق الشفاف، في إطار مسؤوليتنا الوطنية التي تقتضي التبصير بنتائج أو تداعيات استراتيجيات التحولات والسياسات، وعدم جعلها تتراكم لتلتقي مع أمور أخرى، قد تشكل حالة قابلة لكل الاحتمالات.

ولا أرى أنَّ التوجه نحو نسخ النيوليبيرالية، يصلح لبلد مثل سلطنة عُمان بسبب مكونها الديموغرافي الذي يفرض ذاته، وينبغي الاعتداد به، وكذلك لاختلاف بيئتنا عن بيئتها، ولن تنجح النيوليبيرالية في البلاد، مهما كان من ورائها من قوة الإجبار، وبالتالي، فقدر بلادنا أن تظل استراتيجياتها وسياساتها المالية تُراعي الثقل الاجتماعي للدولة، ونكرر مجددًا، قد لا يكون الهدف المستهدف سياسيًا نسخ النيوليبيرالية، لكن السياسات المالية والاقتصادية وبعض القرارات تنتجها في بلادنا وبسرعة زمنية فائقة، ولو بحثنا في خلفياتها، خاصة من يُقدِّم النصائح بأهميتها لمواجهة الأزمة المالية، ويلح على تطبيقها، سنجد وراءه مثل هذه الأجندة، فهو من خلالها يخطط لتفريغ المحتوى الديموغرافي أو القوة الناعمة العمانية، وتعطليها عن ميكانزمات انصهارها كقوة من قوى الدولة للمرحلة المستقبلية، وجعل السيناريو الداخلي بين حالتي شد وجذب، حتى تظل مصالحهم في مأمن من الاقتراب منها.

وهنا نرسم ملامح للتحديات الكبيرة المُقبلة- لا قدر الله- وذلك حتى لا نصل إليها؛ لأنَّ النيوليبيرالية تظهر هنا كخصم للمجتمعات الآمنة والمستقرة، وللدول التي تشعر بعمقها الديموغرافي، وتظهر الدول التي تنصاع لها، كحارسة لمصالح الليبراليين، ومسخرة قوتها الخشنة على حمايتها، وهذه رسالة عاجلة، نتمنى أن تصل في الوقت المناسب، فالنيوليبيراليون في العالم، وحلفاؤهم في كل دولة، يسعون إلى جعل الدول ترفع يدها عن الاقتصاد والأسواق، وتسخر قوانينها وسياساتها وأجهزتها لحماية مصالحهم الخاصة، ولديهم من وسائل الضغوطات ما يعتقدون أنها ستعينهم على تحقيق أجندتهم.

ماذا ينبغي القيام به الآن؟

أولًا: إن العلم بتلكم الخلفيات والمآلات والمصائر، يعد مدخلًا سياسيًا مهمًا للخطوة التالية التي تتجلى في عدم المساس بأركان الإنفاق الاجتماعي، وعدم تأثير منطقة المأكل والمسكن بأية تخفيضات مالية، والعمل على استمرارية قوة الطبقة الوسطى في البلاد، وهذا لن يتأتى إلا إذا ما تمَّ كبح جماح المسيرة الجبائية، وإعادة النظر في مفهوم الخصخصة حتى تحقق أهدافها السياسية، وهي تخفيف العبء عن مالية الدولة، وفي الوقت نفسه زيادة مواردها، وجودة الخدمات والقطاعات. ولو بحثنا عن خضخضة مثالية تحقق لنا مثل تلكم الأهداف، فلن نجد سوى القلة، وهذا يعني أنَّ فوائد الخصخصة ينتفع منها الخواص خاصة، والليبيراليون المحليون والعابرون للحدود عامة، ويعني أن شهيتهم تنفتح الآن على موارد بلادنا بصورة غير مسبوقة، دون أية حسابات بإنعكاساتها على المجتمع.. فهل وصلت الرسالة؟