هلال العامري.. «الطَّوَّافُ» حيث «الشِّعر»

 

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

من قلب سمائل الفيحاء التي تشطر جبال الحجر طودين عظيمين، وتستطيل شامخة كـ"نخلة فرض"؛ لا شرقية ولا غربيّة تتكئ على خاصرة «إزكي»، وتسند ظهرها على «نَخَل»، وتمدّ كفّها إلى «بدبد»، وتولّي وجهها شطر «المضيبي»؛ نبتت نواة الشاعر هلال العامري تشق طين الأرض المباركة بأذكار الصّحابي الجليل مازن بن غضوبة تتقاطر من فمه أسماء الله فتجري أفلاجا، وتتفجّر عيونا، و«تَخْرُجُ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا»، وتسَّاقَط رُطبًا من نور المعرفة في أفواه أبنائها؛ فلمّا ذاق العامريّ حلاوتها تبرعمت زهرته، وسابقت فروع شجرته بعضها بعضا نحو سماء الله بعدما روت من مصاصة «علوم الشريعة» في فلج «الشيخ خلفان بن جميل السيابيّ» فارتشف «سلك الدرر الحاوي غرر الأثر»، فلما استوى على سوقه كان سيفًا في «إدارته» لا ينبو ولا يرتد، وجليا في «نقده» لا يلين ولا يحتد، فشرب وتكرّع علوم التوحيد والفقه من «الشمس الشارقة»، و«منهج الأحكام»، و«خزانة الجواهر» للشيخ العلامة «حمد بن عبيد السُّليْمي».

من بين قلاع وأبراج وحصون «سماء الله» أشرقت شمس هلال العامري، تشقّ أستار العقل، وتُفتِّح زهرة العمر، وتُثقّف رُمح المعرفة؛ فشبّ صاحبَ فطرة نقية، أورثته نفسا راضية مرضيّة، فأيقظ عقله من وِهاد ملاعب الصِّبا، وشدّ مئزر الشباب وأخذ حِزامَ الطَّريق وقبض على جمر أصالته أصالته المصنوعة على أعين أجداده والمسكوكة في جدران «قلعة العوامر»، الموصولة نسبًا إلى «هوازن» الممتدة أصلا؛ أفخاذا وبطونا من «قيس عيلان»، النابتة في سهول الشرف، وفيافي الإباء من «مضر» العدنانية. فتلفّع ثوب المعرفة وشدَّ الرَّحال في صباه جالسا في قاعات الدرس والتلقين لأساتذةٍ عربٍ جاءوا من كل فجٍ عميق إلى إمارات ساحل عُمان الشرقيّ ينهل من معين العلوم الحديثة بروح همّامة للاكتشاف، حتى أرخى لِجام نفسه الأمَّارة بالعلم، وترجّل عن صهوة روحه التواقة للاكتشاف، الشوَّاقة للمعرفة في مرابضِ جامعة «دنفر» الأمريكية.

فلمّا قفل عائدًا كان موضع ثقةٍ لولي الأمر، وكلَّما قلده «إمّارة/إدارة» في دائرة من دوائر النهضة المباركة استعان عليها بالعلم فدرس التخطيط السكانيّ، وتعلّم مباديء الإدارة الإعلامية والجامعية، وسبر أغوار العمل الجماهيري في مشروع «المنتدى الأدبي»، فطاف عُمان على فرسة الأدب، يبعث التراث من رقدته، ويستنطق الشعر تحت ظلال كل سُمرة عُمانية، ويجلو الغبار عن كل موهبةٍ فنية تعامت عنها أضواء العاصمة، وغفلت عنها النقاط العمياء في واحة الأدب فاستدركها وينفخ فيها من روحه الوقَّادة حتى تمرق في عالم الأدب كما يمرق السهم من الرمية.

أربعون عاما ونيف تسنّم فيها هلال العامري جبال المعاني وارتقى صهوة الشعر صاعدا إلى أعالي القصيدة؛ تفيأ فيها ظلال الأعلام، وتأسى بنهج السادة العظام إلى نجاد البلاغة، وفنون القول. فإذا ما رست سفينك على شواطيء شعره لفحتك ريح ثورة عارمة، وأضاءت في روحك أنوار العرفان، وتنزّلت عليك عقائل الكلام، وإذا ما دققت في الفكر وأعملت البصيرة وأجلت البصر وصعدت بصحبته إلى «هودج الغربة» ظللتك غيوم الاغتراب، وهطلت في نفسك سحائب الانعزال والتفرد، وبكيت فراق الصحب والآل، حتى إذا ما ذهبتَ تطلبُ «قطرةً في زمن العطش» ستجد شعر التفعيلة هو المحور المركزي لم تجد غير سراب ونفس تواقةٍ أرهقتها الشِّقوة والنَّصب، تتدافعها أمواج عاتية، وتتقاذفها نيران غاضبة تأكل روح الشاعر من أطرافها، تحدوها الرغبة في الخروج من دائرة المحلية إلى آفاق عربية وإسلامية تتخطى حدود الجغرافيا السياسية إلى عالم فسيح رحب.  

فلمّا طوى العامريُّ كشحه، وسدل أغشية الغضب، وهدأت ثورته، دخل في حالة من التأمل الطويل ثم انتفضَ ليضمّدَ جراحه بـ«الكتابة على جدار الصمت»، ولأنه ورثَ بضعة من ثورة «أبو مسلم البهلاني» ظلت القومية العربية تطل برأسها من بين قوافيه، وتصبّ جام عتابها من بين السطور الراسيات على بحار الفراهيدي التي استوطنت ديار قصائده فامتشق سيف كلماته، وشّد قوس أبياته، وقنص أعداء العروبة بوابل سهامه أخذ «استراحة من الزمن القلق» لترتيب الأولويات وإعادة رسم الاستراتيجيات، وبناء رؤى جديدة للواقع والحياة، ومعاودة النظر في النتائج والمآلات، ثم يأتي «الألق الوافد» ليعلن الشاعر هلال العامري عن انتقاله إلى عوالم مغايرة، وانطلاقة جديدة، تستفيد من التقنيات الحديثة في بناء معمار القصيدة؛ عمود خيمتها الصورة الشعرية، وأوتادها معجم لغوي يوظّف الدلالات، واستراتيجياتها الانزياحات.

فإذا ما قرأنا ديوانه: «رياح للمسافر بعد القصيدة» نجده أحاديث نفس ومناجاة تتنوع بين المنولوج الداخلي والحوار المباشر، والشاعر أشبه بـ«نوخذة عُماني» يمخر عباب بحر لجيّ تتراكم في هدأته ظلمات بعضها فوق بعض فيصرخ تارةً فيرتد إليه صدى صوته، ويهمس أحيانا ليخاطب ذاته، أما في ديوانه الأخير «للشمس أسبابها كي تغيب» فجاء ليعبَّر عن رغبة عارمة لدى الشاعر في البحث عن الحقيقة، ورايةً جديدة مرفوعة فوق سواري الحرية ترفرف في سماء عربية مُحاصرة بالعسس، ينبش في تربة التراث والمعاصرة ليستخرج فكرا جديدا يضيء ظلام الليل الدامس.