التاريخ.. صفحات جهل الجاهلين!

 

يوسف عوض العازمي

 

"يعلمنا التاريخ أن الحروب تبدأ عندما تعتقد الحكومات أن ثمن العدوان رخيص"، رونالد ريجان.

--------

في كل أمة واعية هناك المؤرخ الحصيف الذي يدون ويوثق ويحفظ التاريخ، حتى تتعلم الأمة الدروس والعبر مما مضى، وتستشرف المستقبل بإرادة أقوى، لكن ما نرى على أرض الحقيقة هو طغيان أنانية النزعة الإنسانية الاستحواذية تكاد تسيطر على كثيرٍ من صفحات التاريخ المعاصر؛ حيث التزوير الفاضح لكثير من الأحداث رغم أن الشهود ما يزالون أحياء.

من الخصال غير الحميدة تضخم الأنا، حتى بعدم وجود إنجاز فعلي، نحن لانعترف بالخطأ بل نقلب الأخطاء إلى إنجازات وهمية ونتغنى بهذه الإنجازات التي لاوجود لها على أرض الواقع، نكذب ونعلم إننا نكذب، والمقابل لنا يعلم أننا نكذب، ويعلم أيضا أننا نعلم إنه يعلم أننا نكذب.

لقد جعلناها عادة موروثة، وقف أي شخص في الشارع أسأله هل لعائلتك أو قبيلتك أو فئتك الاجتماعية تاريخ وإنجازات وستجد الإنجازات التي أوقفت العالم على قدم واحدة، وليس بعيدا أن ينشد لك بيت عمرو بن كلثوم:

أَلاَ لاَ يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا

فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَا

هذا في الأفراد البسطاء العاديين، فما بالك بالحكومات أو الأحزاب التي ككبيرهم الذي علمهم السحر!

في زمننا الحالي تبرز آلات التوجيه الإعلامي التي تخلط الغث بالسمين، وتقلب الحقائق بحسب توجهاتها المصلحية المختلفة، وهي آلة تلميع إعلامية لم تبقِ ولاتذر ولم توقر هيبة التاريخ بالقدر الكافي، وسأعطيك مثالا حيا مايزال ساخنا، في سنة قريبة من وقتنا هذا (سنة 2006)؛ أي قبل أقل من 20 سنة، هل تعرف ماذا تعني الفترة الزمنية 20 سنة في التاريخ؟

مسارها الزمني قد لا يزيد عن كلمة واحدة أو مفردة واحدة في إحدى صفحات كتب التاريخ، هي سنة قريبة جدا، أي لايمكن أن يظهر أحد ويزيف حقائق حدث كبير حصل فيها، الناس شهود الله في أرضه، في ذلك التاريخ حصل حدث جلب وبالا ودمارا على لبنان الشقيق؛ حيث قامت قوات العدو الصهيوني بعملية عسكرية شاملة على البلد الشقيق اسمتها "عناقيد الغضب" (1) دمرت خلالها الكثير من منشآت البنية الأساسية للبنان الشقيق والسبب ماذا؟

قررت قيادة إحدى الأحزاب الموجهة من خارج لبنان خطف جنديين صهيونيين وذلك كعملية خاطفة نوعية، فرد الصهاينة بحرب شاملة مُدمرة تناثرت خلالها عشرات الجثث البريئة ودمرت كثيراً من منشآت الدولة بسبب خطف هذين الجنديين من حزب لايضع لهيبة وقدر الدولة أي احترام ويتلقى الأوامر والتعليمات والتمويل من دولة خارجية، وعلنًا، فماذا كانت النهاية؟

خرج أمين عام الحزب في ظهور تلفزيوني ليُعلن وببساطة أن الحزب لم يتوقع أن يكون رد الصهاينة بهذا الشكل ويعترف ضمنا بالخطأ، هكذا ببساطة، بشر ماتت وروعت ناس وبلد وقعت تحت رحمة الضربات العسكرية الصهيونية لعدة أيام، وآخرها يعلن أمين الحزب أنه لم يتوقع ما حدث.

ما الذي حدث بعد ذلك، يحكي لي أحد الأصدقاء أنه كان في بيروت بعد سنوات قليلة جدًا من الحدث، وبأنه شاهد احتفالات في بيروت، فلما سأل عن ماذا هذا الاحتفال قيل له بسبب ذكرى النصر على العدو الصهيوني في 1996.

شعوب وكأنها فاقدة للوعي، الحدث أمامها وتجبر على قبول تزوير الحقائق، ثم يا للسخرية تقوم بالاحتفال بهذا النصر المزعوم كل سنة.

تصور كيف سيكتب كاتب تاريخ الحزب عن الحدث، تصور أكثر أنه سيتحدث عن النصر الإلهي وصمود الحزب، وليس الدولة!، التي لايحترم الحزب مؤسساتها أصلا، وسيضيع الحقائق، هذا الأمور والشهود أحياء وأكثرهم لاحول ولاقوة، فما بالك لو بقيت هذه التدوينات التاريخية إلى بعد عدة قرون؟ هل سيتحمل المؤرخ وقتها المسؤولية الأخلاقية ليمسح ما يجب مسحه من الصفحات، وإعادة كتابة التاريخ الحقيقي؟

قال المفكر الإسلامي محمد الغزالي ذات مرة:  العيب في دراسة التاريخ أننا أحياناً نطالع صفحاته لنقرأ أنباء الانتصارات والهزائم، وأخبار المواليد والوفيات.. ولكن التاريخ شيء آخر وراء هذا الظاهر، وهو أن تعرف ما المقدمات التي انتظمت حتى انتهت بالنصر أو الهزيمة.

الغزالي في المقولة السابقة يعطي معنى حقيقيًا للتاريخ في آخر عبارة من المقولة الواقعية، والمعنى الحقيقي هو بالذات يحتاج أبحاث ودراسات وتأكيد ونفي وأخذ وعطاء، لأن لو أن الأمم والناس عرفت وفهمت المقدمات التي انتظمت حتى انتهت بالنصر أو الهزيمة لكانت صفحات ضخمة من التاريخ مازالت بيضاء، لأن الناس فهمت ولم تعد تكرر ذات الأخطاء!

وأزيد أن المؤرخ يفترض أن يكون أمينًا لحفظ وتوثيق الحدث، هذه مهمة المؤرخ الأساسية والأهم .

______________

  1. هي حرب عدوانية صهيونية على لبنان بسبب خطف حزب الله جنديين صهيونيين، في سنة 1996، أسمتها إسرائيل عملية "عناقيد الغضب"، دامت لمدة 16 يومًا، وراح ضحيتها 118 مواطنًا لبنانيًا.