النموذج الإرشادي للمجتمعات

 

 

أ.د حيدر بن أحمد اللواتي

 

طرح فيلسوف العلوم توماس كون والذي يعد واحدا من أشهر فلاسفة العلوم قاطبة رؤيته حول طبيعة العلوم في كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية"، اذ أوضح أن هناك ما يسمى بالعلم القياسي، ويعني به أن النظريات العلمية تتطور ضمن أطر عامة متفق عليها، ولا يقصد من الأطر العامة مواصفات معينة أو طريقة تفكير معينة؛ بل يذهب إلى أن المقصود من الأطر العامة هو نظرية علمية معينة اتفق المتخصصون في ذلك العلم على أهميتها وأنها أحدثت قفزة علمية كبيرة ويطلق عليها النموذج الإرشادي أو "البراديم".

والعلوم عندما تدرَّس فإنها تدرس ضمن النموذج الإرشادي، وعليه فإن جيل العلماء اللاحق يأخذ النموذج الإرشادي كقاعدة علمية مسلم بها ويبني عليها في محاولة حله لجميع التحديات التي تواجهه فمثلاً كانت العلوم الفيزيائية والكونيات قبل كوبرينكس تدور في نموذج إرشادي مفاده أن الأرض هي محور الكون وأنها ثابتة وأن الشمس هي التي تدور حول الأرض، فكل التحديات التي كان يواجهها العالم يحاول أن يحلها ضمن هذا النموذج الإرشادي، فهو يأخذها بعين الاعتبار في طرحه لحلول التحديات. ومع مرور الوقت فإن هذا النموذج الإرشادي واجه تحديات جمة وصعوبات كبيرة، وهنا جاء كوبرينكس وطرح نموذجا إرشاديا جديدا؛ وهي نظرية علمية جديدة مفادها أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، واستخدم هذا النموذج لحل التحديات والصعوبات التي واجهها النموذج والنظرية السابقة القائمة على أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. وعادة يتم مواجهة النموذج الإرشادي الجديد بعنف وخاصة من كبار العلماء الذين خلصوا وبذلوا جهدا كبيرا في تثبيت النموذج الإرشادي القديم، وقد تصل الأمور إلى حد العنف، لكن ومع مرور الوقت وموت الجيل السابق من العلماء وتسلم الجيل الجديد لدفة القيادة ونجاح النموذج الجديد في إيجاد حلول للتحديات التي واجهتها البشرية في محاولتها لتفسير الظواهر الطبيعية، يصبح النموذج الجديد هو النموذج المعتمد، وهكذا بدأت العلوم تدور في فلك النموذج الإرشادي الجديد، فكل نظرية علمية جديدة لها ارتباط بالفيزياء وعلوم الفلك كانت تأخذ نظرية كوبرينكس كنموذج إرشادي وتدور في فلكه.

ينطبق الأمر نفسه عندما نأتي إلى قوانين نيوتن، فهذه القوانين عندما تم الكشف عنها وعن إمكانية استخدامها لتفسير الظواهر العلمية المختلفة وقدرتها الفائقة على التنبؤ، فإن جميع النظريات العلمية الأخرى والحلول التي تم طرحها في تلك الفترة كانت تتوافق مع قوانين نيوتن، لقد كانت قوانين نيوتن تشكل الإطار العام أو النموذج الإرشادي الذي يرجع إليه العلماء في محاولات تفسيرهم للظواهر الطبيعية، ولكن ومع مرور الوقت بدأت تظهر تحديات جديدة مع هذه القوانين وخاصة على مستوى الذرة وما دونها، وهنا طرحت نظرية الكم وبعد مدة حققت نجاحا باهرا فيما فشلت فيه قوانين نيوتن وحدث انزياح من الإطار العلمي القديم القائم على قوانين نيوتن إلى نظرية الكم وهو ما يطلق عليه توماس كون بالثورة العلمية، فأصبح العلماء يرجعون إلى نظرية الكم كنموذج إرشادي في محاولة تفسيرهم للظواهر العلمية.

وهكذا وبناء على تفسير توماس كون للتطور العلمي فإن التطور العلمي لا يحدث بشكل طردي وإنما يحدث على شكل ثورات علمية تولد نموذجا إرشاديا يسير في إطاره العام العلم القياسي.

فهل النموذج الإرشادي حكر على علوم الطبيعة؟ أم يمكن توسعة الفكرة وتطبيقها على محاولة فهمنا لأسباب تطور بعض المجتمعات وتأخر أخرى عن ركب العلوم والتقانة؟

هناك من يرى أن النموذج الإرشادي لا يقتصر أثره على تطور علوم الطبيعة، فتطور المجتمعات ومساهمتها في تطوير المعرفة البشرية يرتبط أيضاً بالنموذج الإرشادي المسيطر على المجتمع؛ حيث إن المجتمعات التي يسيطر على فكرها أن تاريخها أعظم من حاضرها وأن تطورها مرهون بالاستلهام من تاريخها ومن عباقرتها في الماضي وحسب، فإن تفكير المجتمع سينحصر في إيجاد حلول للتحديات التي يواجهها من خلال تاريخه، فهو النموذج الإرشادي الذي يهيمن على تفكيره، وهو المرجع في تقييم الأفكار وتصويبها، بينما قد نجد في بعض المجتمعات الأخرى سيطرة نماذج إرشادية قائمة على الكرامات أو الجن أو السحر، ولذا تلجأ إليها هذه المجتمعات في إيجاد حلول للتحديات التي تواجهها، وبذلك تغلق باب البحث عن الأسباب الطبيعية التي أودعها الله في هذا الكون.

لذا تمر عليها الظواهر المختلفة دون أن تمعن النظر وراء أسبابها الطبيعية، ومثل هذه المجتمعات لا يمكن أن تساهم في تطور المعرفة البشرية؛ فالنموذج الإرشادي الحاكم على عقولها سيقف سدًا منيعًا تجاه محاولة دراسة أي ظاهرة تواجهها، بينما هناك من المجتمعات من تعتقد حسب النموذج الإرشادي الذي يسيطر على عقولها أن هناك أسبابًا طبيعية وراء الحدث يمكن لها أن تستفيد منه بطرق علمية وتساهم من خلاله في إثراء المعرفة البشرية ونهضة الأمم.

وأخيرًا.. نسأل: ما النموذج الإرشادي الحاكم على عقولنا في مجتمعاتنا الإسلامية؟!

الأكثر قراءة