فاطمة إسماعيل اليمانية
تباهت بنسبها.. وقالت لنا بصوت عالٍ:
- جدّي ـ رحمه الله ـ شيخٌ ابن شيخ، فأنا ابنة شيوخ أباً عن جد!
ولم نكن لنعيرها انتباها، عدا ضحكةً دوّت في المكان، أطلقتها عجوزٌ من عجائز الحارة!
ثم تغيرت الضحكة إلى كحّة، ولم تتوقف إلّا بعد طبطبة ابنتها الخمسينية على ظهرها:
- حلال.. حلال!
وما علاقة "الحلال" بهذه الأمور الطبيعية الّتي تطرأ على المرء، وتنتهي بعد ثوانٍ قليلة! لا أعلم! وربما كان مخترعها هو الوحيد الّذي يعلم العلاقة!
انتهت ضحكة العجوز، أو سعالها، ونوبة الفخر الّتي انتابت ابنة الشيوخ، الحرّة الأصيلة، سليلة الأمجاد، والحروب، والوقائع التاريخية المشهود لها!
وتطايرت كل سيدة إلى منزلها، إحداهن خرجت بعد اتّصال من زوجها، يسألها:
- أين خبأت عدّة الصيانة؟!
- في خزانة المخزن الحديدية، ومفتاح الخزانة أسفل الصندوق البلاستيكي قرب أنبوبة الغاز!
ويبدو أنّ هذا الوصف أثار أعصابه، فسمعناها تقول له:
- دقيقة وأكون في المنزل!
وأعادت الهاتف إلى حقيبتها، وخرجت دون أن تستأذن صاحبة الوليمة..
لكنّ أكثر ما أثار دهشة الجميع، وصول فتاة صغيرة حافية القدمين، تستغيث بوالدتها ابنة الشيوخ:
- أمّي.. أمّي.. تعالي بسرعة، والدي يضرب شقيقتي.. وأمسكها من عنقها!
هرعت الأمّ خائفة.. واكتفينا بتبادل النظرات.. وبعد صمت لم يتعد الدقيقة.. قالت العجوز:
- يبدو أنّ ابنة ابنة الشيوخ، تشبه عمّتها!
حين حاولت الفرار؛ فأطبق والدها بيديه على عنقها حتّى لفظت أنفاسها.. ثم دفنها في باحة المنزل.. هي والرجل الذي أراد الهروب معها!
وقال لأمّها، إذا رأيتكِ تبكين، فإنّك وبقية بناتكِ ستلاقين نفس المصير!
لذلك كانت أمّها تبكي في المطبخ.. وفي الحمّام.. وعند الجيران.. ولا تتجرأ على ذرف دمعة، أو ذكر اسمها أمام زوجها!
غادرتُ المكان، ورغم أنّني لا أصدق كل ما أسمع، إلّا أن القصّة رسخت في ذهني وكلما صادفت جارتنا ابنة الشيوخ، تطرأ قصّة قتل عمّتها في ذهني لا إراديا..
وكان شعوري تجاهها متناقضا.. بين النفور من غرورها.. وبين رغبتي في معرفة حقيقة القصّة الّتي ذكرتها العجوز..
فربّما كانت خرافةً من نسج خيال العجوز، ليس إلّا!
هذه العجوز الّتي أقسمت بأنّها عندما كانت صغيرة، وأرادت الذّهاب لشرب الماء، اعترض طريقها رجلٌ طويل القامة كالنّخلة، له عينان جاحظتان حمراوان كالجمر، وصرخ في وجهها بصوت كزئير الأسد، وقال لها:
- عــــــــــــــودي إلى الداخل.
فعادت وهي ترتجف، واختبأت في حضن أمّها، ونسيت العطش من شدّة الرعب، والخوف.
مرّ شهر على هذه الواقعة، وكَثُرت الأقاويل حول سبب غضب الوالد من ابنته، ورغبته في قتلها؛ لكّنهم جميعا اتّفقوا على أنّها تستحق القتل! كُرْها لأمّها المتعالية!
خاصّة إحدى الجارات الّتي تبادل ابنة الشيوخ العداء منذ سنوات، وتشمت بكل ما يحدث لها من مصائب:
- تستحق، ليته قتلها.. ليته!
- أنتِ تتحدثين عن القتل، كأنّه شربة ماء!
- ليس كرها في الفتاة، بل كرها في أمّها المتغطرسة!
- وإن كنتِ تكرهين أمّها، لا ذنب لأبنائها في سلوكها، فلا تخلطي الأوراق يا عزيزتي، هي شيء.. وابنتها شيء آخر تماما!
- بالعكس، الأوراق متداخلة، ومختلطة منّذ زمن، عندما أراد ابنها الزواج من ابنتي، رفضت، وقالت بأنّ مستواها الاجتماعي سينزل إلى القاع إذا تزوجت ابنتي من ابنها الأصيل!
- لكنّ ابنتك الآن زوجة، وأمّ لطفلين، فانسي الماضي عزيزتي، وفي النهاية الزواج قسمة ونصيب.
- الحمدلله، ابنتي مرتاحة مع زوجها، وتجاوزت الأمر، لكنّني لم أستطع تجاوز إساءتها لي، ولا أنسى أنّها وقفت أمام باب منزلنا تكيل السبّاب لابنتي، وتتهمها بأنّها غررت بابنها، لتورطه في الزواج بها!
عدتُ إلى منزلي.. وأنجزت أعمالي المؤجلة، وعندما تمددت على السرير، لأخذ غفوة، وصلني اتّصال من رقم مجهول، حاولت تجاهله، لكنّ تكرار الاتّصال أجبرني على الردّ؛ فتفاجأتُ بصوت المُتّصلة، إنّها ابنة الشيوخ!
- تفضلي.
- دام فضلك.. أردتك في موضوع يا أمّ خالد..
تحدثت كثيرا..
كانت تريد منّي الحضور كشاهدة في الادّعاء ضد جارتنا أمّ مروان التي تشهرّ بها وبعائلتها وعندما رفضت؛ لم يعجب ابنة الشيوخ ردّي عليها، وأخذت تردح دقيقة كاملة قبل إغلاق الخطّ في وجهها:
- " عميلة.. متواطئة.... حاقدة"!
ولا أعرف إذا كنتُ سأحضر الادّعاء العام شاهدا على شيء لم أسمعه! أو سأرفع عليها قضية تعدّي بالسبّ!
وللأسف نجحت ابنة الشيوخ في تطيير غمامة النعاس الّتي كانت تغطّي جفوني، ولم أنم ليلتها من شدة الانزعاج من وقاحة هذه المرأة! ولو كانت شهادات الوقاحة، توزع، لحصلت على المركز الأول، مع مرتبة الشرف، في الوقاحة، والسّوقية!
مرّ أسبوع، ووصلني اتّصال من جارتي أم مروان، وأخبرتني كيف أنّ ابنة الشيوخ هددتها بأخذها للادعاء العام، واتّصلت بكل نساء الحارة؛ لتخبرهن أنّها ستطلب مثولهن للشهادة ضدّها، لولا تدخل شيخ المنطقة، واقناع زوجها بعدم الشكوى، ولم تكتفِ بالاعتذار الشّفّهي، لكّنها جعلتها تكتبُ ورقة تعهد أمام الشيخ، بعدم التعرض لها، هي وعائلتها.
قلت لأمّ مروان:
- أنتِ مخطئة منذ البداية، وكان الأحرى عدم ذكر اسمها على لسانك.
- درس من دروس الحياة!
ولا أعرف هل نحتاج إلى صفعة من الحياة، لنعيد علاقتنا بالناس، والحياة؟!
مرّ شهر بسلام، بلا تجمعات، ولا ولائم للغيبة، ولا تفاخر بحسبٍ أو نسب.. وآثرت كل واحدة منّا الانشغال ببيتها، وعائلتها، وتحاشى الجميع التعامل مرّة أخرى مع ابنة الشيوخ..
وأطلقت عليها الجارات لقبا آخرا بذيئا للتلميح لم يتم تداوله إلا بين قلة قليلة من نساء الحارة، مع الحذر عند نطقه، والتأكد من خلو المكان من أيّ سيدة لها علاقة بابنة الشيوخ؛ حتّى لا تمسي المرأة في بيت زوجها، وتصبح في الادعاء العام!
وفي يوم من الأيام، سمعتُ صوت الجرس، وفتحت الباب للزائر، فتفاجأت ب " عادل" ومعه فتاة سمراء، يبدو لي من هيئتها، وملامحها أنّها أفريقية، فقال لي:
- هل بالإمكان استقبال زوجتي لنصف ساعة يا خالة؟!
- ما شاء الله.. تزوجت يا عادل؟!
- نعم يا خالة، وأمّي غاضبة، ترفض استقبالها.. وسأذهب للمنزل لألملم ملابسي الملقاة في باحة المنزل.
دخلت زوجة عادل، وجلست في الزاوية..
كانت شاحبة.. ومرتبكة.. ورفضت تناول أي طعام قدمته لها، واكتفت بالعصير.. ولم تكن تجيد العربية، ولا الإنجليزية عدا كلمات قليلة.. وكنت أجهل كيف التقى بها عادل، وكيف تزوجها أساسا؟!
بعد أقل من ساعة عاد عادل، ورفض الدخول، ثم طلب منّي إبلاغ زوجته بالخروج إليه، وشكرني على استقبالي لزوجته، وانطلق في سيارته مسرعا، كمن يهرب من عاصفة!
انتشر خبر زواج عادل في الحارة بسرعة..
وسمعت من الجارات أنّه سيقيم في العاصمة، وأنّ زوجته أثيوبية جاءت للعمل في البيوت، وتعرف عليها عندما كان يذهب إلى صديقه الذي يمتلك مكتبا لاستقدام العاملات، وسافر إلى أثيوبيا وتزوجها في بلدها، وهي تقيم معه كعاملة منزل!
أمّا ابنة الشيوخ، فظلّت مصدومة فترة من الزمن.. لا تغادر منزلها، ولا تردّ على أيّ اتّصال، ولا تسخر من أي أحد.. ولا تتباهى بحسبها أو نسبها! أو بكونها ابنة شيوخ!
(النهاية)