في مسألة الناقد وقبوله من المنقود

 

عبد الله العليان

لا شك أن النَّقد المطلوب من أطراف التحاور والمُناقشة، مسألة بديهية ومُهمة، وحاجة ماسة لطرح مسائل الحوارات الفكرية التي تحظى بقدر مهم من النقاشات، أو قضية من القضايا  المُجتمعية للحوار ولها في الفضاء المفتوح اهتمام متجدد في النقاشات.

وهذه النقاشات لابُد أن تُثمر، من خلال التعدد والتنوع في الآراء بحيث تتعدد فيها الحوارات وتتنوع، من أجل الوصول إلى أرضية فكرية قد يتم الاتفاق عليها بين المتحاورين، أو تتقارب فيها الآراء إلى نقطة محددة بينهما، أو عدم الاتفاق، وقد يتم التطابق وقد لا يتم. وهذه قضية معروفة وطبيعية في مثل هذه المسائل التي يجري فيها النقاش، وهذا الحوار الذي يجري بين الأطراف- كما قصدته في هذا المقال- عادة يتم إما عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، أو عن طريق الوسائط الحديثة المتعددة التي أصبحت ناشطة بصورة لافتة، والتي أتاحت المجال  للحوارات والنقاشات بصورة أكبر وأوسع. ولا شك أنَّ حرية التعبير وحق الاختلاف، يفتحان الباب على مصراعيه لزيادة الوعي في كل قضية تُطرح للحوار، ونحن بشر قد نخطئ وقد نصيب، ومن المهم أن نترك هذه المُفارقة الخلقية في النفس الإنسانية لإبداء الآراء وتناقضها أو اتفاقها، وكل شخص في هذا الحوار يحدد رؤيته التي يعتقد أنها أكثر دقة ومنطقية. ويأتي الرد المقابل بنفس الفهم والاعتقاد بصوابية رأيه، لكن من المُهم ألا يعتبر أي شخص من أشخاص الحوار، أنه في طرحه قد قبض على الحقيقة فيما قال بعكس الشخص الآخر، إنما كل الآراء التي طُرحت نسبية، وقابلة للنقض والدحض، والكمال لله وحده.

من هنا على كل طرف أن يقبل بحق الاختلاف في الرأي، بما أنها سنة الله في خلقه، لكنني للأسف من خلال التجربة في المُتابعة، ومن خلال الممارسة الفعلية، أجدُ أنَّ بعض الأشخاص لا يقبل أن تُخالفه، ويعتبر ذلك انقاصاً لذاته فيما طرح، وكأن رأيه مقدس لا يقبل المخالفة، وهذه إشكالية فكرية ونفسية، وبعض هؤلاء، لا يتوقف عند عدم قبول رأيه؛ بل يتحول هذا الاختلاف أحيانًا إلى عداوة شخصية وهذه وفق تجربة. وهذه نظرة سلبية ليست مفهومة في مجال تعدد الآراء واختلافها، وعلينا أن نقر ونعترف بأنَّ هذا الاختلاف سنة بشرية في الخلق؛ لأنَّ البشر خُلقوا هكذا مختلفين كما جاء في القرآن الكريم، والاختلاف قد يحدث حتى بين الأخ وأخيه، بسبب الاختلاف الفكري كما يراه الآخر مختلفا عن أخيه الآخر.

هذه ميزة التعدد والتنوع التي بلا شك فيها ثراء لإيجاد رؤية إيجابية مشتركة في النهاية، بغض النظر عن أي رؤية الأفضل والأصح.

والشيء الغريب أن البعض لا يكف عن طرح أهمية الاختلاف وأهمية  إرساء تقاليد الحوار الإيجابي الناجح، ودوره في إنعاش الأفكار النافعة من خلال النقاشات البينية، لكن عندما يخوض تجربة الحوار، يتحول إلى شخص آخر، ويرفض ويغلي ويثور، ويتحول أحيانًا إلى شخص مليء بالحقد الأسود، بسبب هذا الاختلاف، مع أنَّ الأمر متاح ونسبي، ولا يعني مخالفة شخص في الرأي، أنك على حق وأنه على خطأ، فقد يكون الأمر معكوسًا، إنما المسألة نسبية عند اختلاف الآراء ولا يجب أن نعطي قدسية للاختلاف، فكل رأي لابُد أن يكون قابلًا للنقض، حتى آراء العلماء الكبار المؤسسين للمدارس الفكرية، أكدوا عدم قدسية الاجتهاد في الآراء، والإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، سُئِل مرةً عن اجتهادات الفقهاء في مسائل عديدة، فقال قولته الشهيرة "كل يُؤخذ منه ويُرد إلا صاحب هذا المقام" وأشار بيده إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أشرتُ في كتابي "أكاديميون ومفكرون عرفتهم" وبعض المقالات السابقة في قضية الاختلاف بين الراحلين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، حول قضية العلمانية، فالجابري قال في بعض مؤلفاته: "في رأيي من الواجب استبعاد شعار "العلمانية" من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية، فهما اللذان يعتبران تعريبًا مطابقًا لحاجات المجتمع العربي".

هذا هو المشكل الذي جعل جورج طرابيشي، يتغير تجاه الجابري وينقلب من مُعجبٍ إلى معارضٍ للكثير من أطروحاته، واتهمه بأنَّه "متحامل على اللغة العربية"، وان"استنتاجاته خاطئة"، وردَّ جورج طرابيشي على ما قاله الجابري عن العلمانية في مقابلة بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 27 يونيو 2004 أجرتها الكاتبة الصحفية سوسن الأبطح؛ حيث قال طرابيشي إنه كان أحد المعجبين بمحمد عابد الجابري "ثم صدمني- أي الجابري- حين كتب مقالة في مجلة "اليوم السابع" التي كانت تصدر في باريس أواسط الثمانينات يقول فيها "فلنسحب هذه الكلمة- يقصد العلمانية- من قاموس الفكر العربي"، وهنا شعرت أنَّ كل الآمال التي علقتها عليه باعتباره رائد ثورة معرفية- لا ثورة أيديولوجية- سقطت وتهاوت".

إذن الإشكالية هي عدم القبول بالاختلاف، وهذا ما يجر إلى الانفعال أحيانًا، وربما إلى حد الكراهية- وهذا جرى بين مفكرين وباحثين بارزين- ويأتي النقد متلبسًا بشحنة من الازدراء والتهم من خلال عدم القبول برأي المُخالف، مع أنه حق من حقوق الشخص في إبداء رأيه وفق ما يراه، سواء صدق فيما قاله، أو أخطأ، وهذه هي ميزة التعدد في الآراء، ولا مناص من قبوله والاعتراف به.