وإنك لعلى خلق عظيم (2)

 

كان في مهنة أهله

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري

 

إذا كان الله جلَّ وعلا وصف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بـ"الخلق العظيم"؛ فهو كذلك ظاهرًا وباطنًا، كما أسلفت في مقالي السابق؛ أي يمتازُ بعلو الخلق في تعامله الظاهري مع صحابته وسائر البشر، كما يتميز بسُّمو الخلق في تعامله الداخلي مع أسرته وأهل بيته وأقربائه.

فصاحب الخلق العظيم لا يعرف الازدواجية الأخلاقية: وجه ظاهري حسن مع الناس، ووجه آخر عسر مع أسرته، فالأخلاق لا تتجزأ، والسُّمو لا يتقيد بمكان أو حال دون آخر، فهو صاحب خلق سام مع الكل وفِي كل مكان وزمان، وهذا هو المدلول الصحيح للخلق العظيم. أما أن يكون للإنسان وجهان: وجه مشرق مع الصحب والخلان، ووجه آخر مظلم مع زوجته وأولاده وإخوانه وقرابته، فهذه ازدواجية غير محمودة، ومسلك يناقض القرآن "الأقربون أولى بالمعروف"، وهم كذلك أولى بوجهك الباسم.

وقد كان عليه الصلاة والسلام خير الناس لنسائه؛ لأنه لا يتصور من صاحب القدوة العليا إلا أن يكون كذلك في عشرته مع أهله، كان ذلك حقيقته وسريرته بشهادة خديجة وعائشة، رضي الله عنهما.

معايير خيرية الأخلاق عديدةٌ، أعلاها خيريته لزوجته، هذه هي المقياس الحقيقي لعلو الخلق، ولا ينبئك بخبيئة المرء إلا زوجته شريكة حياته في السراء والضراء، وقد حسم الرسول مقياس الخيرية بقوله: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله".

هذا هو المقياس الحقيقي للخلق الحسن، خدمة أهله وأسرته، وهو ما يتفق مع توجيهات القرآن بأولوية ذي القربى بالإحسان "وبالوالدين إحساناً وبذي القربى" وأيضًا: "قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"، وفيه جاء الحديث المتفق عليه "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك".

وتصف أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها الحياة الخاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام وصفًا بليغًا يؤكد بساطة وعفوية حياة الرسول في بيته وكيف كان يمضي يومه فِي قضاء شؤون بيته وتلبية حاجات أسرته، فتقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحاكًا بسّامًا وما كان إلا بشرًا من البشر، كان يكون في مهنة أهله- يعني خدمة أهله- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ويعمل في بيته، كما يعمل أحدكم في بيته، حتى إذا حضرت الصلاة خرج إليها، ولا رأيته ضرب بيده امرأة ولا خادمًا"، صدقت أمنا عائشة.

تصوروا: رسولنا لم يضرب امرأة ولا خادمًا قط في حياته، ما أعظمك يا رسول الله..

فما دلالات هذا الوصف؟

هذا العظيم المختار من السماء لهداية البشرية، لا يستنكف أن يعمل في خدمة أهله، وقضاء حاجات البيت بنفسه مع أنه قادر بإشارة منه أن يستعين بالمئات الذين يتشوقون لشرف خدمته، لكنه يأبى إلا أن يخدم نفسه بنفسه ولا يرى فيه أي حرج أو مساس بمقامه؛ بل يراه شرفًا فيقول: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".

إن عظمة الخلق إنما تتجلى في هذا السلوك البشري البسيط، وإن في كل ذلك دروسًا وعبرًا لمن أراد أن يتعلم ويرتقي .

يعجبني عبدالوهاب الطريري صاحب الكتاب الفذ "قصص نبوية.. زوايا جديدة لقصص السيرة" قوله: إن هذه الأعمال اليسيرة في المنزل تصل إلى قلب الزوجة مشفوعة بمذكرة تفسيرية تضج بمعاني الحب والمودة والرحمة، وتشعر الزوجة بالدنو القريب إلى زوجها، والامتزاج الروحي والعاطفي. إن كون الرجل في مهنة أهله بأيِّ عمل، وعلى أي صفة رسالة حياة تقول: هو بيتنا جميعًا، كما هي حياتنا جميعًا. وإن معاني الالتحام الزوجي تنسجها هذه اللمسات المعبرة، فيكون في عين زوجته بقدر تواضعه، ويعظم في نفسها بقدر بساطته.

يتبع،،،

كاتب قطري