بين المصلحة وتنظيم الضريبة

 

 

يحيى الناعبي

 

تغليب المصلحة فطرةٌ وجوديةٌ عند الكائن الحي؛ حيوانات أو بشرًا؛ لأنها متعلقة بتوفير الحاجة الأساسية سواء مأكل أو مشرب أو إيواء إلى أن تصل للرفاهية، وغالباً ما تبدأ المصلحة عند الفرد بنفسه ثم تمتد تدريجياً إلى القريبين منه ثم الجماعة التي ينتمي إليها إلى أن تتسع دائرتها لتمتد جغرافياً لتنتهي بالوطن.

وقد تمتد أكثر من ذلك عندما تتقاطع المصالح وتشترك الاهتمامات والقضايا. وقد اهتمت التعاليم الدينية والعلوم الفلسفية والاجتماعية وغيرها من العلوم الإنسانية محاولة تنظيم المصلحة وسن القوانين حتى لا تتغلب على الفطرة البشرية لأنها محور ذو حدين (الخير والشر).

لقد اهتمت الكثير من الدول الحضارية بتغليب المصلحة العامة أو الاجتماعية على مصلحة الفرد؛ حيث إنه من الطبيعي في مصلحة المجتمع أن تمس الأفراد ولكن المصلحة الفردية دائرتها ضيقة ومحدودة متعلقة فقط بالفرد. لذلك من الأسباب الرئيسية في تخلّف بعض الشعوب وتراجعها هي إطلاق العنان للمصلحة الفردية على مصالح المجتمع، وفتح مجال التنافس حولها حتى ضاعت حقوق الجميع. فمن يظن أن المصلحة الفردية تحمي صاحبها فهو مخطئ. لأنه بإمكان المجتمع التخلي عن الفرد لكن الفرد لا يستطيع التخلي عن المُجتمع. والمجتمع هنا لا يعني ذلك الذي ينتمي إليه الفرد من حيث القرابة والمنشأ؛ بل في أي مكان يكتب له العيش.

وأدى غياب تنظيم ومراقبة السلوك الفردي في مجتمعاتنا إلى اختلال منظومته وتوازنه في جميع النواحي، خصوصا تلك الرقابة المتعلقة بالقرارات المؤسسية، فأصابها الشلل والعقم، وأصبحت بمرور الزمن تترهل أكثر وأكثر. وعلى الرغم من أن الكفاءات في ازدياد نتيجة الجهود الفردية، لكن لم ولن يكن لها دور، ويؤدي بها مبكراً إلى حالات اليأس والإحباط من السلوك العام.

تم تغييب مقدرات الوطن تحت مظلة العزف بالشعارات الوهمية التي لم يكن لها أثر على الأرض، والتي يدركها جميعنا أنها مجرد هلام ضبابي وسيمياء تحلق في سماء من الفوضى بعيدا عن الواقع. تزامن ذلك مع الشيخوخة والعجز شبه الكامل الذي يصيب المؤسسة الرسمية إلى أن أصبحت تتوسل المواطن في المشاركة فقط (بدفع الضرائب).

من الأمور التي تدعو إلى الحزن فعلاً هو أنه حتى طريقة فرض الضريبة لم تظهر أن هناك عقولًا تفكر لتطبقها بطريقة حضارية؛ بل يتم توظيفها بأسلوب رجعي جدًا، في حين بكبسة زر على جهاز الحاسوب تستطيع الاطّلاع على الطرق المختلفة التي تتبعها الدول لتنظيم فرض الضرائب والآليات المقنعة التي من خلالها يحرص المواطن على دفع الضريبة، بدلاً عن الطريقة العشوائية والتي تزيد من حنق المتضررين.

مثال بسيط وحضاري: بدلًا عن أن يُفاجأ المواطن في المنافذ الحدودية أو حتى بالمطار بدفع مبلغ دون أن يعرف السبب!! تكون هناك آلية أخرى مثل توفير خدمات في مُقابل رسوم بسيطة مقابل استفادته من هذه الخدمات، بشرط (وأشدد على الشرط) على ألّا تكون الرسوم عبئًا؛ بل في حدود المعقول. لذلك يجب التفكير في طرق تتقاطع مع حياة الإنسان وأن تكون العملية تنبني على المصلحة المشتركة بين الحكومة والمواطن.

إن تجربة فرض الضريبة ناجحة جدًا، لكن يجب أن تكون مدروسة بأطر المنفعة العامة. ولتكون المصلحة تشاركية يجب أن يعلم دافع الضريبة على ماذا دفع أو ما هي المنفعة التي يجنيها من عملية الدفع الضريبي. أيضاً، من حق دافع الضريبة أن يشارك برأيه وأن ينقد الخدمات دون المستوى وأن يحاسب المسؤول عنها. وأن تكون الشفافية على السطح في المناقشات البرلمانية وفي خطط الحكومة، فجملة "سري للغاية" التي يتفننون في ديباجتها في خطاباتهم غير مقبولة، على وجه الخصوص كل المتعلقات بالمؤسسات الخدمية، تعليم، صحة، نقل، حماية اجتماعية، رفاهية (حدائق، متنزهات، سياحة، إلخ).

بينما أن يدفع المواطن الضريبة، ومن ثم يفاجأ بفساد مالي وإداري (بكل تبعاته دون تفصيل)، هنا تتحول المؤسسة الرسمية إلى التعنت والعنجهية والتي أثبتت فشلها في دول العالم الثالث (لن ندخل في تفاصيل وأمثلة كثيرة هي شواهد الواقع). بالتالي، هي لا تسمى ضريبة؛ بل سمّها ما شئت، بسبب غياب أهم شروطها وهي المصلحة المُقابلة. لذلك على المؤسسة الرسمية أن ترجح صوت العقل من أجل المشاركة في البناء، طالما بدأت الدول تنتقل من الريعية إلى المسؤولية المشتركة.

الإنسان هو الإنسان أينما كان، والإدارة هي التي تتغير.