طموحات الرأي العام التي لم ترَ النور!

د. محمد بن عوض المشيخي **

ارتقت معظم دول العالم في الشرق والغرب بتطبيقها مبدأ الثواب والعقاب في الوظيفة العمومية؛ فالمخلص والمتقن لعمله يكافأ تقديرا لجهوده ويستمر في الوظيفة، بينما يُعاقب المذنب والمتهاون في أداء واجبه ويُعزل في أقرب فرصة؛ فالمنصب الرفيع في الأساس تكليف قبل أن يكون تشريفا، باستثناء في دولنا العربية التي يعشعش فيها الفساد وينخر في مفاصل تلك الدول إلا من رحم ربي.

فالحد الأدنى للمكوث في المنصب في البلدان العربية، هو عقد من الزمن للذين ظهرت عليهم علامات الثراء ونعمة المنصب والفشل في إدارة المؤسسة، أما الذين أحسنوا إدارة شؤونهم في المنصب فالمكوث في الكرسي يدوم لعقود طويلة، ثم يورث للأبناء والأقارب، فلا أحد هنا يسأل عن الإنتاج والكفاءة.

محليًا، مرت سنة كاملة منذ التشكيل الوزاري وبروز شخصيات مسؤولة للرأي العام المحلي بعد الجلوس على كرسي الوزارة الذهبي، خاصة تلك الوزارات والهيئات الخدمية ذات الاتصال المباشر مع المجتمع ويرتبط عملها بالمواطن العُماني. وكان الكل ينتظر من هذه القيادات الجديدة المختارة بعناية أن تقدم حلولًا سحرية، وأفكارًا إبداعية حول الملفات المتعثرة، وفي مقدمتها الملف الاقتصادي الذي يتمحور حول تنويع مصادر الدخل الوطني وخاصة استغلال الموارد الطبيعية؛ كالمعادن لتكون بديلًا لموارد الطاقة التي ستنفد يومًا ما، وكذلك تنمية العقول، وإطلاق ما يُعرف بـ"اقتصاد المعرفة" من خلال إنشاء الحاضنات والمصانع، والمعامل التي تعتمد على ابتكارات الشباب، وبحوث الجامعات الرصينة وتحويلها إلى مشاريع إنتاجية رائدة في مختلف المجالات الصناعية والتقنية، وذلك للتصدير الخارجي والاستهلاك المحلي.

صحيح هناك أول مدينة تقنية في السلطنة تعنى بالمعرفة تأسست في عام 2003، كانت بدايتها متواضعة مقارنة بالمدن الأخرى في المنطقة من حيث الأموال التي رصدتها الدولة لها، في ذلك الوقت والتي لم تتجاوز بضعة ملايين من الريالات العُمانية، وأيضًا من حيث الشركات والمؤسسات التي انخرطت في العمل هناك. لكن هذه المدينة التي تقع في ولاية السيب تهدف بالدرجة الأولى إلى توفير مرافق وخدمات إسناد عالمية المستوى للشركات القائمة على الابتكار وتوظيف المعرفة والتكنولوجيا. غير أن إسهاماتها لم تكن على مستوى الطموح، رغم مرور حوالي 20 سنة على تأسيسها. كما إن ملف التوظيف لم يكن أكثر حظًا، الذي أخفقت في إدارته وزارتا الخدمة المدنية (سابقا) والقوى العاملة (سابقا) في الأساس، إلى جانب مركز التشغيل الذي تولته حاليًا وزارة العمل، والذي ما زال يترنح ويبحث عن عصا سحرية لتحقيق الحد الأدنى من أهدافه المتمثلة في إيجاد فرص عمل للمواطنين الذين ينتظرون منذ سنوات طويلة الحصول على مصدر رزق يحفظ لهم كرامتهم في وطنهم الذي يستحوذ على وظائفه العليا عشرات الآلاف من الأجانب منذ عقود طويلة. هناك تذمر وشكاوى على نطاق واسع من قبل الباحثين عن عمل حول إدارة هذا الملف من المسؤولين في وزارة العمل. ولذا فإنَّ الشفافية في إجراءات التوظيف والإعلان عن أسماء الذين نجحوا في الاختبارات وتم توظيفهم، أصبحت من المطالب الأساسية لتحقيق الشفافية والعدالة في مجال المنافسة الشريفة.

نقطة أخرى وهي، أن تطبيق الضرائب الباهظة على الشركات الكبرى وخاصة رسوم استقدام العمالة الوافدة، لم يُحقق هدف التعمين بأي حال من الأحوال؛ بل عجل بإغلاق بعض الشركات والمؤسسات التجارية التي كان يُمكن لها أن تستوعب الكوادر العُمانية. كما إن أعداد الذين وعدت بتوظيفهم الوزارة منذ بداية هذا العام ويقدر عددهم بأكثر من 30 ألف مواطن لم تتضح الأمور بعد حول إجراءات التوظيف التقليدية والبطيئة، فيُفترض أن تعلن الوزارة عن كشوفات أسبوعية وشهرية للذين تم توظيفهم لمعرفة حقيقة ومكان استيعاب هؤلاء الشباب؛ فالناس فقدوا الثقة بالأساليب المتبعة حاليا والتي يسودها الغموض.

أما ملف التعليم الذي يعد ركيزة أساسية للنهوض بالفكر الإنساني وتقدم الأمم، فقد طالته الأيادي التي ترسم سياسة التعليم في هذا البلد، والمنوط بها على وجه الخصوص محور التعليم والتعلم في (رؤية 2040). فعلى الرغم أنَّ البعثات الخارجية للحكومة لا تتجاوز 1500 بعثة عام 2019، فقد تم تقليصها إلى أقل من ثلث العدد المعتمد قبل عامين؛ أي إلى 400 بعثة فقط!! هذا يعكس التوجه العام للمسؤولين في وزارتي المالية والتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ونظرتهم الضيقة لتوفير المال لخزينة الدولة، حتى ولو كان ذلك على حساب العلم، الذي كان السبب الرئيسي في انتشال هذا البلد من ظلمات القرون الوسطى، وولوج شبابه المتسلح بالعلم إلى رحاب المعرفة والتنوير. إن البعثات الخارجية في الجامعات الغربية المرموقة تعمل على إيجاد كوادر عُمانية ذات مستوى رفيع من العلم والمعرفة والمهارات التدريبية والمنافسة في تلك الدول المتقدمة، مما يساعد المبعوث العُماني على الحصول على الوظائف العليا في شركات القطاع الخاص الذي يتعلل دائماً بحاجته للمخرجات التي درست باللغة الإنجليزية في جامعات مرموقة ودولية. ومن المفارقات العجيبة أن تجد رجال أعمال ومؤسسات في معظم دول الخليج يتبرعون سنوياً بآلاف البعثات الداخلية والخارجية للمواطنين؛ بل وتطول هذه البعثات بعض العُمانيين نظرًا لقلة أو انعدام بعثات مماثلة من رجال الأعمال في هذا البلد.

أما ملف السياحة الذي يُعد من القطاعات الواعدة في "رؤية 2040"؛ وذلك لكون السلطنة تتميز بمناخ استثنائي في محافظة ظفار، فقد كشفت الأسابيع الماضية عن تراجع ملحوظ في أدوار الجهات المعنية بالسياحة، فهناك إخفاقات بالجملة في مختلف المجالات، بداية من الخدمات اللوجستية على طريق أدم- ثمريت، والذي يحتاج إلى تكملة الطريق المزدوج من هيماء إلى ثمريت وتزويده بالمرافق الضرورية، وخدمات الوقود التي نفذت في معظم المحطات على الطريق في بداية شهر أغسطس، وكذلك الاختناقات المرورية في مدينة صلالة، وحاجتها الماسة إلى بعض الجسور وصيانة العديد من الشوارع، والطرق التي تحولت إلى حفر ومطبات، وكذلك تنفيذ ازدواجية شبكة الطرق المتجهة من الساحل إلى الجبل خاصة الطريق المودي إلى الأماكن السياحية في الجزء الشرقي من المحافظة مثل دربات وسمحان وكهف طيق، وقبل ذلك كله التعجيل بإصلاح الطرق التي دمرتها الأنواء المناخية خلال السنوات الماضية، خاصة وادي عدونب والمغسيل اللذين يربطان صلالة بولايات رخيوت وضلكوت في المنطقة الغربية من محافظة ظفار.

كما إن المحافظة تفتقد للمرافق السياحية، والحدائق والمطاعم خارج مدينة صلالة. والسؤال المطروح الآن؛ أين القائمون على رؤية "عُمان 2040" التي حملت في طياتها مضاعفة الدخل من السياحة في الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة؟!

في الختام.. الآمال معقودة على الرؤية المستقبلية "عُمان 2040" لانتشال هذه القطاعات الخدمية أو الملفات الساخنة، ووضعها في الاتجاه الصحيح، وذلك حسب ورودها في الخطة. ولا شك أن لكل رؤية أو خطة استراتيجية تحديات وفرص منذ انطلاقها حتى نهايتها، كما إن معظم الخطط الاستراتيجية للدول المجاورة بدأت بسنوات قبل تطبيقها الرسمي، وعلى الرغم من مرور فترة زمنية كافية لظهور النتائج الأولية للرؤية العُمانية، إلا أن الصمت والتعتيم يسود آلية تنفيذ قطاعات العمل في هذه الخطة، فهناك اعتقاد على نطاق واسع بأن كتابة الخطط على الورق أمر في منتهى السهولة، بينما تنفيذ تلك الخطط على أرض الواقع أكثر تعقيدًا وأصعب من توقعات الجميع.

من هنا ندعو من هذا المنبر للاستعانة بأساتذة جامعة السلطان قابوس للمشاركة والإشراف على تنفيذ الخطة، خاصة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية؛ فقد أثبتت الأيام أن الجهات الحكومية التي وضعت الخطط والاستراتيجيات التنموية ثم تقوم هي نفسها بالتنفيذ، لا يحالفها الحظ أو النجاح؛ بل يجب أن يكون التنفيذ من خارج الصندوق، ومن خلال شراكة وتعاون بين واضعي الخطة والمنفذين المفترضين لها، من بيوت الخبرة الوطنية مثل جامعة السُّلطان قابوس.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري