حاجة مرحلة الدبلوم العام إلى تغيرات جذرية

 

مرتضى بن حسن بن علي

appleorangeali@gmail.com

 

تجتاح العالم ثورة تكنولوجية كاسحة، تعبر الحدود بدون قيود، وينتح عنها أو يصاحبها تغير في طبيعة المعرفة ذاتها وعلى جميع الأصعدة، وهذه الثورة تنطوي على أذى للأقطار الأقل استعدادا للتقدم، والأكثر ميلا لمقاومة التغيير، إذ إنها تُحيل عددا متزايدا من الأنشطة الاقتصادية إلى مشروعات لا جدوى منها، والتقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع، إذا لم يتم استيعابه، سوف يقوم بتهميش أكبر لاقتصاديات تلك الدول، ويسبب مزيدا من البطالة في صفوف شبابه وشاباته حيث يقوم بالغاء معظم الوظائف الحالية، ويستحدث وظائف أخرى مختلفة، علما بأن أكثر الوظائف الآن التي يعمل بها العدد الأكبر من شاباتنا وشبابنا هي الوظائف الإدارية والكتابية وغيرها من الوظائف الصغيرة والمتوسطة، وهي ذات الوظائف المهددة بالتراجع المستمر، ثم الانقراض أمام زحف التكنولوجيا.

 

وإذا لم نتدارك الأمور وبأسرع وقت ممكن، فإن التكنولوجيا الحديثة سوف تكون عبئاً يُثقل كواهلنا، وكيفية إدارتنا لمواردنا البشرية والتكنولوجية والعلمية والاقتصادية سوف تلعب دورا كبيرا ومحوريا في تحديد قراراتنا لمواجهة التطورات العالمية المتسارعة.

 

 

إضافة إلى ذلك، فإن تلك الثورة تفرز تداعيات أخرى عديدة منها التغيير الاجتماعي المتسارع، وما ينتج عنه من تبدلات وتغييرات في مفاهيم القيم والعادات والأخلاق والعلاقات الاجتماعية، ونوعية فرص العمل، والتغييرات التي تحصل ليست بين جيل وآخر كما عهدنا بالماضي، بل تحصل في داخل نفس الجيل ولمرات عديدة، وقوى التغيير التي تواجه العالم عميقة التأثير ومعقدة ومترابطة، والسباق بين التعليم والكارثة سوف يزداد شدة، وهو سباق تزداد حواجزه ارتفاعا كلما دخلنا أكثر فأكثر في عُمق العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.

كل ذلك يستدعي وبسرعة إحداث تغييرات جذرية في نظامنا التعليمي العتيق وبجميع مراحله، بدءًا من الروضة ومرورا بالمدرسة الابتدائية والثانوية، ووصولا إلى التعليم العالي وما بعده.

والتعليم الثانوي تحديدا عليه أن يساهم بشكل أكبر فعالية وتأثيرا في عملية استيعاب التغييرات عبر بث روح التفكير النقدي عند الطلبة، نظرًا لما يتميز به طلبة هذه المرحلة من خصائص ترتبط بطبيعة المرحلة العمرية التي يمرون بها، والتعليم الثانوي الحديث المتطور المستجيب لاحتياجاتنا في يومنا وغدنا، يسير باتجاه تعليم الطالب عددا متنوعا من المهارات، مثل التكيف والمرونة والقدرة للتعامل مع التغييرات السريعة، وتبادل الأفكار، واستشراف المستقبل والاستعداد له والتفاعل معه بشكل واعٍ، والإطلال عليه بالفكر، وإدراك احتمالاته، وتوقي مُفاجآته، وبلوغ غاياته.

يتحمل التعليم عموما وخصوصا التعليم الثانوي مهمة في غاية الأهمية في زرع أخلاقيات العمل عند الطلبة، وغرس روح الفريق، والتدريب على التخطيط وتنمية قدرات الحوار البناء، والمناقشة الحرة المسؤولة بعيدا عن التعصب والآراء القطعية غير القابلة للتفاعل، سواء داخل المدرسة أو خارج أسوارها، وغرس مفاهيم التعلم المستمر مدى الحياة، أي التعلم الذاتي بأبعاده المختلفة، وتدريب الطلبة على طرق ومناهج التفكير العلمي عند التعامل مع القضايا الفكرية والعملية والمجتمعية، إضافة إلى زرع قيم التسامح، وقبول الآخر، وتنمية الروح الوطنية ومفاهيم المواطنة الصحيحة، وقيم المحاسبة والشفافية.

يقع على عاتق التعليم الثانوي تحديدا إعداد الشباب علميا وسلوكيا للمهارات الحياتية المختلفة، وإعدادهم للتأقلم مع التغييرات الكاسحة آلتي تحدث بشكل يكاد أن يكون يوميا، عن طريق تزويدهم بذخيرة كبيرة من المهارات الحياتية المختلفة والتي تعطي أبعادًا جديدة للمهنة، مثل تكنولوجيا المعلومات، والذكاء الصناعي والاتصالات، والإبداع، والتفكير النقدي، وأخلاقيات العمل، وفي كيفية التعامل مع الآخر المختلف، والعمل في فرق مشتركة، وريادة الأعمال، والمسؤولية المدنية، والحقوق والواجبات، إضافة بالطبع إلى إعدادهم للمهنة التي يحبون تعلمها قبل التوجه إلى التعليم العالي.

 

ومن أجل ذلك وتوفيرا للوقت والجهد والمال، ينبغي حسب اعتقادنا التركيز في الصفوف الثلاثة الأخيرة من التعليم الأكاديمي، أي قبل الحصول على شهادة الدبلوم العام، على المواد الضرورية للطالب عند التحاقه بالتعليم العالي، إضافة إلى التركيز على المواد المشتركة لكل الطلبة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، وهي اللغة الإنجليزية، والذكاء الصناعي، وتقنية المعلومات والتفكير النقدي.

من أجل ذلك ينبغي إجراء مقابلات شخصية مع جميع الطلبة المواصلين دراساتهم الأكاديمية في الصفوف الثلاثة الأخيرة لمعرفة الطلبة الراغبين في تكملة دراساتهم الجامعية، مقابل الطلبة الراغبين بمواصلة دراساتهم في المعاهد والكليات الفنية والتقنية والمهنية، والطلبة الراغبين بالالتحاق بسوق العمل مباشرة، وحصر الدراسة في السنوات الثلاثة الأخيرة في مواضيع ومواد محددة، حسب الفرع الذي ينوي الطلبة بمواصلة دراساتهم فيه، فعلى سبيل المثال الطلبة الراغبون بمواصلة دراستهم في العلوم الطبية والبيولوجية والزراعية والصيدلية إلخ.. يتم التركيز على مواد الكيمياء والفيزياء وعلم الأحياء والرياضيات، وتركيز الدراسة للطلبة الراغبين بالالتحاق بالكليات الهندسية والفنية والتقنية على مواد الرياضيات والرسم الهندسي وغيرها من المواد المتعلقة بمجال دراستهم، أما الطلبة الراغبون بمواصلة دراساتهم في المجال التجاري والإداري يتم التركيز على المواد المتعلقة بالرياضيات والمحاسبة والاقتصاد وعلم الإدارة وغيرها من المواد المتعلقة بمجال دراساتهم وتخصصاتهم، أما الطلبة الراغبون بمواصلة دراساتهم في كليات التربية وإعداد المعلمين، فيتم التركيز حسب الفرع الذي يريدون الدخول إليه، إضافة إلى علم النفس والاجتماع، أما الطلبة الراغبون بالالتحاق بسوق العمل مباشرة بعد الحصول على الدبلوم العام، فيتم التركيز على اللغة الإنجليزية وبعض الجوانب من الرياضيات والعلوم الإدارية والمحاسبة، ومهارات الاتصال والتخاطب، والتواصل وحل المشكلات والمبادرة وعلمي الاجتماع والنفس.

من المهم أيضًا إيجاد جسور تمكّن الطلبة المتخرجين من الثانوية والحاصلين على شهادة الدبلوم العام أو الكليات أو المعاهد الفنية والتقنية والتحاقهم بسوق العمل مباشرة، والراغبين في الحصول على الالتحاق بالتعليم العالي لاحقاً، من مواصلة دراساتهم، وهذه الجسور غير متوفرة حاليًا.

يصعب التحدث عن تطوير التعليم في جميع مراحله من دون الاهتمام الجيد بإعداد معلمي المستقبل، وتمهين مهنة التعليم لتصبح مهنة رفيعة المستوى تماثل المهن الرفيعة الأخرى مثل الطب والهندسة والقانون وغيرها، فمن حق المعلمين على المجتمع ومن حق المجتمع عليهم أن تكون هذه المهنة من المهن الرفيعة المستوى مكانة وتقديرا واكتفاءً مادياً، فالمعلم المُتعلم والمثقف والممتهن والملتزم يعتبر عنصرًا بالغ الأهمية لإصلاح وتطوير التعليم، ومن دونه يصعب إصلاح وتطوير التعليم، مهما كانت المقررات والمناهج جيدة، وهذا الموضوع سوف نتطرق إليه في مقال آخر.

 

إن التغييرات العالمية المذهلة والتقدم المعلوماتي والتكنولوجي الملاحق والمستويات والمؤهلات التعليمية والعملية الحقيقية لعدد كبير من العاملين فعلًا أو الباحثين عن عمل أو الخريجين من الثانوية العامة أو التعليم العالي جعلت التعليم ليس مجرد خدمة يتم تقديمها، وإنما أصبح التعليم الجيد والمتطور قضية سلامة واستقرار ومستقبل أي شعب وأمن أي وطن، ومن هنا يتوجب علينا أن نُواجه مسألة التعليم كوطن يشعر إن التعليم هو خط دفاعه الأول ومحور مستقبله وأمنه واستقراره ورخائه.