خالد بن الصافي الحريبي
"القيادة إما حديقة أو مقبرة".. هذا من أثمن الدروس التي تعلمتها مع زملائي خريجي البرنامج الوطني للقيادة والتنافسية الذي نفذته جامعة أكسفورد، بإشراف كريم من ديوان البلاط السُّلطاني.
تعلمنا هذا الدرس بعد تفاعل مع المُحاضرين المُبتكرين الذي مثلوا لنا مسرحية "الملك هنري الخامس" وتحليل شخصيته وفكره حسب تحليل الكاتب الإنجليزي الكبير وليام شكسبير. ومعنى العبارة أنَّ القيادة مسؤولية واختبار وفرصة لتحويل نعم الطبيعة لثروات مُستدامة؛ فإما يهديها المولى- عز وجل- لأن يزرع من الفرصة حديقة ونباتا وورودا تزيد عالمنا جمالاً، أو يحول مؤسسته إلى مقبرة نصلي فيها على الأرواح الدفينة والفرص الضائعة.
أتذكر هذه المسرحية الإنجليزية وقصة عربية لا تقل عنها عبقرية وهي قصة الزباء وقصير الذي جدع أو قطع أنفه. كما أتذكر هذه القصص عن القيادة ونحن يتردد على مسامعنا هذه الأيام عبارة "أفغانستان مقبرة الغزاة"، ونحن نشهد انسحابًا لجيوش الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف المكون من حوالي 44 دولة من هذا البلد العظيم، الذي أهدى الإنسانية في العصر الذهبي للإسلام عددًا من أهم علماء القيادة والأديان والفلك والطبيعة وغيرها. منهم السلطان بابر شاه مؤسس إمبراطورية الهند المغولية، ومولانا جلال الدين الرومي، والمفكر جمال الدين الأفغاني. وقد يكون أهم سؤال يشغل بالنا من أخبار العالم هو: لماذا جدع قصير الأمريكي أنفه؟ وهل رسالتنا في هذا الكون أن نفخر بالدفن في المقابر أم زرع الحدائق؟
"لأمر ما جدع قصير أنفه"
أكاد أجزم أن إحدى أكثر قصص الثقافة العربية الثرية تشويقًا وهي قصة الزباء ملكة تدمر داهية أو نائلة بنت الملك عمرو العمليقي، وقصير بن سعد بن عمرو وزير خصمها اللدود الملك جذيمة الأبرش، الذي اغتال أبيها في القرن الثالث الميلادي. استطاعت الزباء بدهائها أن تستدرج الملك جذيمة باللعب على غروره وطمعته في نفسها ومُلكها واغتالته. فما كان من الوزير قصير إلا أن ابتكر حيلة لإعانة خليفة الملك جذيمة وهو ابن أخته عمرو بن عدي على الثأر من الملكة الزباء، وهي أن يجدع قصير أنفه ويمثل أنه منشق ويلتحق ببلاط الملكة الزباء ويكتشف أسرارها. وحاول مستشارو الزباء تحذيرها وقال أحدهم مشككاً: "لأمر ما جدع قصير أنفه" فذهبت مثلاً. وانطلت هذه الحيلة على ملكة تدمر، وأدخل قصير ملكه عمرو بن عدي وجنوده قصر الزباء وقبل أن يغتالوها قالت مثلها الشهير "بيدي لا بيد عمرو". ومثل حيلة قصير، تجدع أمريكا أنفها وتنسحب من أفغانستان، لكن في الحقيقة التحليل المنطقي البسيط يخبرنا أنه كما يقول المثل البدوي: "الذيب ما يهرول عبث"، وكل السياسة في أمريكا داخلية. فقد كسبت أمريكا اتفاقية مع الحكام الجُدد لأفغانستان تتيح لهم الوصول لموقعها الاستراتيجي الحاجز بين شمال وجنوب وشرق وغرب آسيا، والوصول لثرواتها الطبيعية والبشرية التي تُسهم في تمويل خطة تحديث "البنية الأساسية" الضخمة للرئيس الأمريكي جو بايدن. ومجتمعاتنا على الرغم من إمكانياتها كالملكة الزباء انطلت عليها الحيلة وتبث الجانب الغربي من قصة الانسحاب دون الانتباه للبعد المستقبلي؛ لاستنزاف ثروات اقتصادات العالم الناشئة في مرحلة التعافي من الجائحة. وبينما يحول قادة الغرب بلدانهم إلى حدائق يحول قادة مجتمعات مثل أفغانستان إلى سياج ومقابر يتوق كثير من نسائهم ورجالهم شيبا وشبابا وحتى رضعًا أن يهجروها.
"حبذا الإمارة ولو على الحجارة"
يحق لكل أمة أن تفخر بأنها أنهكت جيوش إمبراطورية الإسكندر المقدوني الجرارة في القرن الثالث قبل الميلاد، وجيوش الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، والسوفييتية في القرن العشرين، والأمريكية في قرننا هذا الحادي والعشرين. ومن جانب آخر يدعونا الهدي السماوي إلى الحذر من أن تنطلي علينا حيل من يجدع أنفه، وأن نكثر من الفخر بالهلاك والدمار والاقتتال المستمر بين فئات المسلمين. وفي تاريخ أفغانستان العظيم عبرة؛ حيث ما إن تتحرر من طغاة حتى يغلب على أمرها قيادات يُحيلون أدمغتها مهاجرين ومنجزاتها أكوامًا من الحجارة. وقد اعتبر أهل مدينة البصرة- حاضرة جنوب بلاد الرافدين مهد الحضارات الإنسانية- من تاريخهم الذي مرَّ عليه عدد لا يحصَ من الأمراء، واذهبوا مثلاً عربيًا يقول "حبذا الإمارة ولو على الحجارة".
إنَّ من الأمانة التي تحملها المجتمعات أن تؤمن بغاياتها نحو العيش الكريم، والتنافسية والإبداع والابتكار. وتتأمل في المؤشرات التي تخبرها إن كانت حديقة يفتخر بها أو حجارة، وأطلالًا يُبكى عليها، ولا يكاد يمر علينا شهر لا تصدر فيه دراسة علمية موثقة أصرت بالأدلة ميل الهرم السكاني في الاقتصادات الناشئة- كمجتمعاتنا- مستقبلًا إلى الشيخوخة، على غرار ما يحدث في المجتمعات اليابانية والروسية، وتناقص قيمة ثرواتنا، كما حصل لتناقص قيمة ثروتنا السابقة أو اللؤلؤ الطبيعي بعد انتشار اللؤلؤ الاصطناعي. إن تنوع الثروة البشرية بين شباب ذوي خبرات نعمة وأي نعمة، وتنوع الموارد الطبيعية في سهولنا ومياهنا وجبالنا نعمة؛ والأمل في أن يسخر الله عزَّ وجلَّ لاقتصاداتنا الناشئة قيادات يبذلون قصارى جهدهم أن يزرعوا حدائق ونباتات وورودا جميلة.
يُسرني مشاركة القراء الأعزاء أن مقالي الأسبوعي الذي يتناول التعليم والابتكار والعلاقات الدولية والقيادة سيحتجب، وأتطلع لعود حميد قريب، بعد استراحة قصيرة للتأمل وابتكار محتوى جديد بإذن الله.