أرواحٌ ظمأى

 

وداد الإسطنبولي

تشعر بتلك الحبيبات الناعمة من التراب وهي تتناثر على جبينها؛ تغمض عينيها؛ تفادياً، تستنكر! مَن ذا الذي ينخر التراب ويُزعج سكونها وخلوتها؟!

ترتجف لا تعلم مَنِ الفضولي الذي سيطل من النافذة الصغيرة، تُمعن النَّظر في تلك البقعة التي تتسع من أثر التنقيب.. لم تستطع أن تحرك ساكنا الظلام شديد، والرطوبة تملأ المكان، والشرشف الأبيض الذي يضمها رث قاتم؛ فهي تعلم لا يمر هنا عابر سبيل، فكلٌّ يلتزمُ مخبأهُ، انفرجت عيناها برؤية أصبع تخترقُ المكان، وشعرت بأنفاسٍ تتصاعد، تجمدت حين سمعت صوتا يئن بصعوبة

هل من أحد هنا؟.. أيها الجار

صمتت، فتبادر إلى ذهنها صوتٌ مألوف تعرفه، تسمرت وعقلها يكثرُ من التساؤلات؛ تشجعت فسألته: ماذا تريد؟ أخبرها أنه يشعر بضيقٍ شديدٍ، والحرارة تخنق أنفاسه؛ فتجيبه بعكس ذلك، فهي تشعر ببرودة شديدة؛ فالمكان رطب وبارد، رفعَ حاجبيه وكأنه أيضًا استأنس الصوت، ولكن هناك مساحة لم تنتهِ بينهما.

الحديثُ معه كان يدفئها، ورقةُ صوتها كان ينسيه حرارة المكان، وقتٌ طويلٌ قد مرَّ ولا يعلم كل منهما إن كان هذا الظلامُ نتيجة شتاءٍ قارص؟ وهل الرطوبةُ سببها صيفٌ دافئ؟

سألها بعفوية عمَّا تحتاجه فأجابت: الدعاء، وباغتته بنفس السؤال فقال: أحتاج ما يرويني في هذا الحر! وأردف بسؤال آخر: كيف تشعرين؟ قالت بسرعة: بالستر.

تبسم أو هكذا تهيأ لها وقال: وأنا طلبت الرحمة. فجأةً! طلب منها السكوت هناك ضوضاء!

ماذا تريد يا بُنّي؟ اقترب شاب أسمر بهدوء: أريدك أن تُعينني على حمل هذا الدلو ؛ أريد أن أرشَّ الماء على قبر أبي وأمي ليكون بردًا وسلامًا لهما.

اقترب حفّار القبور، وساعد الشاب على حمل الدلو وهو يقول في نفسه: نعم! وقتٌ طويلٌ مضى فقد جفَّ قبرهما.

جنون الحجر

أجد نفسي كلما أبتعد يصغرُ حجمي، وعندما أقتربُ تتشابه أطوالُنا، أنظرُ إليهِ وينظرُ إلَيّ، ألتَفِتُ حَولي، فيفعل ما أفعل، يتعمَّدُ ائتِمَامِي في كل ما أقومُ به، لا أجده مختلفًا سِوى في منتصف السماء، عندما تتوسط الشمس كبدها، ويختلف أيضًا عندما أتحدث، فهو يتخذُ وضعية الإنصاتِ وبقوة، أشبِهُه!  لا، بل هو مَن يشبهني، في كل شيء يحيط بي أرى أثره، ملامحه السوداء تُخيفني أحيانًا! إن أمعنتُ التحديقَ فيه دون حِراك، أما هو فثابتٌ لا يعيره أي اهتمام.

قلتُ: سأُثيرهُ وأُتعبُه بحركاتي البهلوانية، قهقهت ففعل، ركضت يميناً وشمالاً، جلست ووقفت، اقتربت منه فكان قريبًا مني، كنتُ ألهث وأزفر أنفاسي ولا أسمع سِوى صداي، وهو يُمسِك أنفاسه، لم أستطع أن أرى ملامِحُهُ الضبابية فعيناي تشوشتا وتزغللت من التركيز، وذلك السوادُ الحالك يلاحقني فكرت، فأخذتُ خصلةً من شعري ورفعتها عاليًا، وكنت أحاول أن أنظر إليه من آخر الزاوية بعيني، فرأيت تلك الشعرةَ الرقيقةَ مرتفعةً بالفعلِ، وقفت على الكرسي، ثم شعرت بالإنهاك فاستسلمت وجلست منحنية على الكرسي ونظرت إلى الوسادة على السرير كنت ألهث كالثور الغاضب، وأخذتها ثم طوَّحتها نحوه بقوة فاصطَدَمَت به ووقعت، تنفَّستُ بعمقٍ فقد أُرهِقتُ من اللعب والعبثِ مع هذه الملامح، نظرتُ إليه وأنا أستَشيطُ غضباً اقتربتُ منه  أناطحه بجبيني قلت له: تكلمْ، هناك إيحاءات تتحرك وبدون إصدار الجواب، كنت مُتشوقةً لسماع جوابِه، قلت بشرود: ماذا لو؟ ثم تراجعتُ عن أفكاري، وقُلتُ: ماذا يريد مني؟ فقط أريد أن أريح جثتي على السرير وهو يلاحقني كالظل، وأعدت تكرارها في نفسي"الظل!"  فنظرتُ هذه المرة إليه بطريقة مختلفة، تراجعت للوراء، ولكن هذه المرة اقتربَ فارتفع شعر جسدي.

ثم نطق: هذه أنتِ؟!

ولم يبقَ لي أثر.. فقد هرولتُ ولا أدري إلى أين؟

أحمر شفاه

كل شيءٍ في الخلف يظنه الآخرون انتهى، وربما أنا كالآخرين أحب أن أهرولَ إلى الأمام. لا أحب استعادة الماضي وإن كان هو شراع البدايات وأوقِنُ بألا سبيل لنسيانه.

البدايةُ مشوارٌ يبدأ بخطواتٍ من الوراء،.. وهناك هدم وبناء، وفواصل تربطنا ببعض، وهامش وفراغات نضعها بين شرطتين، ونقف عند الحقائق بنقطة.

كل بداية تحمل عِبْءَ الخلف، ونوايا عِلْمُها عند الله، وحكاياتٍ مشوقة، وحبًّا مُرْهِقًا، وثرثرة مسموعة، وصمتًا قاتلا، ومواظبةً واستهلاكًا، وفتنًا أغوى من أحمر الشفاه!