علي بن مسعود المعشني
انطلق ما سُمي بـ"الجهاد الأفغاني" عام 1979م، بعد التدخل السوفييتي بأفغانستان بدعم أمريكي وغربي وبعض العرب؛ بقصد تجربة نظرية "الحروب الدينية" التي وضعها يزبينجو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي حينها؛ حيث وجدوا الساحة الأفغانية مناخًا مثاليًا لتجربة النظرية، وشحنها بالغطاء الديني والجهاد كـ"ضد نوعي" لما سُمي بـ"الاحتلال الشيوعي" لبلد مُسلم يُسمى أفغانستان!
ووجدت بعض الأقطار العربية والمُسلمة في "الجهاد" الأفغاني فرصة ذهبية للتَّخلص من الشباب "المُتدين" من الذين أنتجتهم حمى الثورة الإسلامية في إيران والتي أفرزت حينها تداعيات كثيرة وكبيرة في المنطقة والعالم بالنسبة والتناسب وعلى صُعد كثيرة ومختلفة. وكان من أهداف أمريكا إضافة إلى ما سبق إذلال السوفييت في مستنقع حرب شبيه بمستنقع فيتنام، والذي لعب فيه الروس دورًا كبيرًا بدعمهم السخي لثوار فيتنام ضد الاحتلال الأمريكي. لم يعلو صوت حينها فوق صوت "الجهاد" ولم ينبرِ أحد بسؤال عن ماهية "جهاد إسلامي" ترعاه أمريكا وأم الكبائر إنجلترا، فقد ساد الجميع مظاهر أفيون عقلي فاخر وتناقلوا أخبار وبطولات وكرامات "المُجاهدين" العرب ضد "الشيوعية الكافرة".
انتهت الحرب بهزيمة نكراء للسوفييت وخروجهم من أفغانستان مُثقلين بذكريات مُرَّة وخسائر لا تُحصى في العدة والعتاد، وأصيب الاتحاد السوفييتي بعدها بجميع أعراض ومظاهر عجز القوة والتي عرفتها أمريكا بعد هزيمتها بفيتنام؛ حيث ولأوَّل مرة تُهزم دولة نووية وبأسلحة تقليدية وجيش نظامي من فصائل حرب عصابات، إضافة إلى الهزيمة النفسية القاسية لكلا الجيشين الأمريكي والسوفييتي؛ حيث لم يخض الجيش الأمريكي أي مُواجهة عسكرية منذ حرب فيتنام ولغاية حرب الخليج عام 1991، حين وجد الأمريكان في حرب تحرير الكويت فرصة سانحة لترميم نفسيات جنودهم من آثار حرب فيتنام، بينما لم يجد السوفييت تلك الفرصة إلا في عهد فلاديمير بوتين عبر مُواجهة تمرد جورجيا؛ حيث قرر الروس عام 2008 شن حملة تأديبية ضد جورجيا- جمهوريتهم السابقة في الاتحاد السوفييتي- بقصد تأديبها وترميم نفسيات جنودهم من آثار حرب أفغانستان المُذلة لهم.
كان الهدف الرئيس لما عُرف بالجهاد الأفغاني هو ما ذكرته سابقًا، ولكن من النتائج غير المُتوقعة لهذا الجهاد هو إحياء فريضة الجهاد الغائبة لدى عموم المسلمين وفي نفوس الشباب المسلم خاصة، وكانت أكثر الجغرافيات تأثرًا بهذا المد هي جغرافيات الأقطار المسلمة في الاتحاد السوفييتي والأقليات المسلمة في دول كبرى مثل الصين والهند، الأمر الذي استدعى القيام بخطة مضادة لإبطال مفعول الجهاد سريعًا والتمدد الإسلامي معًا عبر محاكاة النموذج الأفغاني، فكانت حركة طالبان هي الضد النوعي لجذوة الجهاد والتعطش للإسلام المُستنير. هنا كان لابُد من إنتاج فهم ممسوخ وسلوكيات مُشينة للإسلام والمسلمين والمتمثلين في طالبان لتنفير الناس من الإسلام وحكم الشريعة والجهاد معًا.
تمَّ تمكين حركة طالبان من حكم أفغانستان عام 1996؛ حيث تمكنت من طرد جميع زعماء الحرب الأفغانية ورموز الجهاد ممن تمَّ تسويقهم كزعامات عسكرية وقبلية وروحية زمن مواجهة السوفييت، ثم أتت ذريعة حادثة تفجير أبراج نيويورك عام 2001 لتعلن أمريكا الحرب على طالبان وتزرع حكومة موالية لها لاحقًا.
عاد من بقي من زعماء الحرب الأفغان إلى كابول وتحت راية حلف "الناتو" واعتصم عناصر طالبان بالجبال والكهوف، ونزح الكثير منهم إلى إيران والتي وجدت فيهم ورقة سياسية إستراتيجية رابحة تفوق معاناتها من حكم طالبان بكثير.
سألت صديق أفغاني عن سبب قبول ورضوخ زعماء "الجهاد" الأفغاني تحت راية الناتو ولم يستفزهم ذلك، وكما أعلنوا النفير على الوجود السوفييتي!؟ فقال لي: لقد وجدوا ضرر الوجود الأمريكي أقل من ضرر حكم طالبان فقدموا مفسدة الاحتلال والسكوت عليه، على بدائية طالبان وهمجيتهم.
تعود اليوم حركة طالبان إلى حكم أفغانستان بعد مفاوضات بينها وبين الأمريكان وتتساقط أمام عناصرها المدن والولايات، واحدة تلو الأخرى، فيما يُشبه أحجار الدومينو، الأمر الذي يُستنتج منه المباركة والدعم العسكري والاستخباراتي الأمريكي السخي للحركة، بموجب الاتفاق، لتمكينها من السيطرة على كامل البلاد وفي زمن قياسي.
المُحير في الأمر هو كيف يتفاوض الأمريكان مع حركة طالبان وبمعزل عن الحكومة الأفغانية الحليفة لهم؟! ولماذا سقطت أفغانستان بهذه السهولة والسرعة بيد طالبان رغم العُدة والعتاد لدى الجيش الأفغاني؟! وما مصلحة أمريكا من تمكين طالبان في جو شبيه إلى حد التطابق بدخولها كابول عام 1996؟!
هناك مؤشرات إقليمية ودولية ومن داخل حركة طالبان نفسها تبين أنَّ طالبان اليوم وفي نسختها الثانية ليست طالبان الأولى، وقد تُبرهن الأيام شيئاً من هذا الاستنتاج، بدليل ترحيب دول الجوار وعلى رأسها روسيا وإيران بالتَّعاون مع الحركة كنظام سياسي أفرزه الواقع والحاضن الشعبي. الأمر الثاني: تصرف قيادة الحركة مع المُعطيات على الأرض والواقع السياسي بعقلية رجال الدولة لا عقلية رجال الميليشيات، فحركة طالبان اليوم أكثر براجماتية من الأمس في تعاملها وتعاطيها مع الشأن المحلي والإقليمي، وتوصيفها للمكون الأفغاني وتعاملها مع الجوار.
لكن يبقى السؤال المُلح عن مصلحة أمريكا في هذا التغيير الجذري السريع والانقلاب على الحلفاء في كابول والذي لا يُمكن وصفه بالانتصار الكلي ولا الهزيمة الكاملة، كما إنَّ ترحيب الكبار من دول الجوار الأفغاني يُبين أنَّ هناك تُوافق ما على أفغانستان الغد، وإلا لما ترقبوا مخرجات التفاوض بين الحركة وأمريكا بالعاصمة القطرية الدوحة، وهم بإمكانهم عمل الكثير بنفوذهم لتعطيل ما قد يُشكل مهددًا لمصالحهم بداخل أوطانهم أو يحد من نفوذهم بداخل أفغانستان.
قبل اللقاء.. يقول لي صديق أفغاني مُطّلع ومُثقف التقيته قبل أعوام في وصف حركة طالبان: سينسى الأفغان 100 عام من الاحتلال البريطاني و30 عامًا من الاحتلال السوفييتي، ولكنهم يستحيل عليهم نسيان 4 أعوام من حكم طالبان لهم!!
وبالشكر تدوم النعم.