الفساد ليس نبتة شيطانية

 

خالد بن سعد الشنفري

 

تتعالى وتتعاظم نبرات الانتقادات والمُطالبات بوسائل التواصل الاجتماعي لدينا في الآونة الأخيرة والشكوى من الأوضاع الاقتصادية التي لامست الحياة المعيشة اليومية ومتطلباتها، تزايدت وتعددت أشكال بعض هذه الانتقادات إلى حد الصراخ والبكاء والاسثغاثة من وطأة ذلك على قطاع عريض من المجتمع.

مع إيقان تام بحصول ضرر لحق بالكثيرين إلا أننا بالمقابل لم نشهد بشبيه لهذه الحملة لدى مجتمعات وشعوب أخرى عانت ولا تزال تُعاني، وما وقع عليها أكثر بكثير مما نعانيه ولا نقول إلا الحمد لله على كل حال وكل له أسبابه والمصير واحد بل إن بعضهم أوضاعهم مصحوبة باختلال في المنظومة الأمنية مما أصبح يشكل خطرًا يهدد الحياة نفسها {أي أصبح في الحال لا المال فقط} وأخطار لامجال للمقارنة بينها وبيننا.

في الوقت الذي عانى فيه بعضنا من التقاعد المُبكر هناك إخوة لنا في دول شقيقة من لم يحصلوا على مرتباتهم لسنوات، ومن عانى منِّا من ارتفاع فاتورة الكهرباء هناك من لايجد الكهرباء إلا سويعات في اليوم، وأيضا ارتفاع تسعيرة البترول وغيرها من المواد والخدمات الاستهلاكية الأساسية، قابلها عند البعض عدم إمكانية الحصول عليها تمامًا لانعدامها في الأسواق.. وحدث ولا حرج عن أمور أخرى وصلت إلى الدواء أحيانا، وكل هذه مشاهد رأيناها بأم أعيننا في هذا العصر، عصر العالم القرية.

صحيح أنَّ ما نعيشه وضع غير مسبوق لنا منذ بداية نهضتنا الحديثة والإنسان عدو ما يجهل. إلا أنَّ السؤال الذي ينبغي أن نجد له جواباً: ماذا بعد كل هذا؟!

لقد وصلت الرسالة وأخذت الحكومة في التجاوب مع ما يُمكنها التخلي عنه من هذه القرارات حسب تصورها ومنظورها للوضع الاقتصادي العام برمته، كحلول مستدامة، ومن منطلق الأسباب الداخلية المحلية والخارجية العالمية والتي أصبحت معلومة لنا (لسنا هنا بصدد الدعوة إلى التوقف عن المطالبات فهي حق مشروع) ولا نعتقد أن أي حكومة في العالم لا يهمها رضا شعبها عنها ولا تمتلك الحكومات عصا سحرية، أو أنها ستقدم على معالجات آنية قصيرة على حساب أساسيات وسائل استدامة اقتصادية يخشى مع عدم اتخاذها تعاظم الضرر لا قدر الله.

 الاعتدال والعقل يفترض أن يكونا سيد الموقف، فعلى الحكومة عدم إغفال خصوصية المجتمع في عُمان؛ فالمواطن العماني حديث عهد بهذه الأزمات بعد عصر نهضتنا الحديثة، ولم يكن مهيئًا لتقبل ذلك في ظل هذا التغيير الحاد هبوطاً على مستوى حياته ومعيشته، وفي نفس الوقت يصعب عليه تهيئة وتعديل أوضاعه بهذه السرعة والسهولة، فقد اعتاد على وضع وتفاجأ بذلك، الحكومة أيضاً تفاجأت ووقعت في نفس ما وقع على المواطن ولا يلام الطرفان على ذلك.

لا شك أنّ أجهزتنا الحكومية أيضًا تفاجأت ووقعت في نفس ما وقع فيه المواطن، فلا أحد كان بوسعه توقع حدوث وضع اقتصادي عالمي كهذا الذي نمر به، صاحبته جائحة نائحة أول مرة تواجه البشرية مثلها في تاريخها لم تبق ولم تذر خلال العقود الأخيرة، لكن الحكومات عادة ما تنطلق من منطلق مسؤوليتها العامة الراعية لشعب وأرض ومقدراتهما وحياة المجتمتع برمته وإدامة استمرارية ذلك على المدى الطويل وتنظر للمستقبل بعكس نظرة الفرد الذي يهمه واقعه الحاضر الحالي على حياته ووضعه الشخصي أولا.

اتخذت الحكومة في سبيل معالجة الوضع الاقتصادي برمته قرارات بزيادة جرعات التحصيل من الرسوم والضرائب لبعض الخدمات ورفع الدعم عنها لسد العجز الحاصل في الموازنة ولكنها أيضاً لم تمس جوانب أخرى كالصحة والتعليم على سبيل المثال وغيرها.

وفي ظل ذلك تعالت الانتقادات والمطالبات حول كل ما اتخذته الحكومة من قرارات أولها التقاعد المبكر من مؤسسات القطاع العام وما تشظى منه من تسريح من مؤسسات القطاع الخاص لتداعيه بدوره أمام كل هذا مروراً برفع الدعم عن الوقود والكهرباء وغيرها.

وأنا كمواطن عُماني وقع عليّ كل ذلك، وكنتُ أتمنى على حكومتنا أن تتدرج فيه من منطلق أن "ضربتين في الرأس توجع"، فما بالك والضربات توالت وانهالت وتعددت وتنوعت، وأيضا من منطلق إيماننا بأنَّ الغد والغيب بيد الله وأن الحكومات دائماً يفترض بها مراعاة المواطن، لأنه الأساس في التنمية، ولكي لا تشل أو تضعف قدراته مع وجود ما ينغصها وليس العكس، كان يفترض بها مراعاة ذلك من منطلق الدولة الكريمة دائمًا كما يصفها فقهاء القانون.

الآن وفي معمعة ما نحن فيه لا بُد من التفكير أولا للخروج من ذلك، وبأقل خسائر للطرفين؛ ففي النهاية كلنا راعٍ وكلنا مسؤول عن رعيته، وعلينا جميعاً الحرص على أن لا يضار طرف على حساب الطرف الآخر، فلا بُد أن يتنازل كل منِّا من جانبه لتستمر عجلة الحياة والتنمية معًا دون ضرر أو ضرار.

معلوم أن الحكومات عادة منوط بها ويفترض بها إثراء المواطنين، إلا أنه في ظل الأوضاع العادية ومن الإجحاف مطالبتها بذلك في مثل هذه الأوقات الاستثنائية العصيبة، لكنها تبقى قادرة على إيجاد الحلول وبالذات الأهم منها قبل المهم؛ لأن القرار الأخير بيدها، مع علمنا التام بأن اتخاذ القرارات بدوره ليس أمرًا هينًا؛ فلا تُتخذ القرارات على علاتها، خصوصًا عندما تتعلق بقطاعات واسعة من المواطنين وفي ظل أزمات، وهذا المبدأ في اتخاذ القرار ينطبق على الحكومة أو المؤسسات أو الأفراد، وعلى المواطن أن يُغيِّر ما بنفسه بيده ومن جانبه، ولا ينتظر- كما تعود- من الدولة كل شيء، ولنا في بوادر إعادة الدعم لفاتورة الكهرباء الأخير المثال؛ لأنها ضرورة ملحة لا تقل عن الصحة والتعليم، ونتمنى أيضاً أن تتم إعادة دعم الوقود بنفس الطريقة في الحد المتوسط لاستهلاك المواطن العادي على الأقل كما اتخذ في الكهرباء، إضافة إلى استمرارية وتصاعد توظيف الشباب ووتيرة الإحلال بقدر الإمكان في الحدود التي لا تضر بمسيرة تقديم الخدمات والتنمية معًا، لما لذلك من دور مهم في رفد الأسر العمانية وتفكيك الضغوط الواقعة عليها.

إن أوضاعًا اقتصادية كهذه التي نمر بها ليست مستبعدة على مستوى دول بعينها أو عدة دول أو على مستوى العالم، وهي دورات اقتصادية تحدث وتمر، وبلد كعمان بخيراتها التي وهبها الله قادرة على تجاوز ذلك سريعًا.

علينا كمواطنين بدورنا- وهذا في غاية الأهمية- أن نتخلص ولو تدريجيًا من نمط حياتنا الاستهلاكية والاجتماعية السابقة التي تطاولنا نحن بالذات كعُمانين فيها (يمكن تقليدًا) كأسلوب معيشة وعادات اجتماعية سلبية، للأسف الشديد، رغم أن ديننا الحنيف يشجبها (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) "الإسراء: 29".

بقي أن نتطرق إلى نبرة واضحة جلية رافقت انتقادات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث يلاحظ أن معظم هؤلاء يلف ويدور في الانتقادات ويعود إليها ألا وهو الفساد، الذي أصبح الشماعة التي علقنا عليها كل شيء، وللأسف الشديد، هناك الكثير ممن ركب موجة وسائل التواصل الاجتماعي لمجرد الشهرة، والأدهى والأمر أنَّ كثيرًا من كتابنا أيضا- والذين كان يفترض بهم التحليل وطرح المعقول من الحلول- ركبوا الموجة وكادت تصبح موضة "لكي تُقرأ لابُد أن تنتقد"!

ولو اتخذنا موضوع الفساد هذا مثلاً، وهو الطاغي على كل هذه النقاشات، فلنسأل أنفسنا أولا: ألم يتربى الفساد ويترعرع بيننا وفي وسطنا وأمام أنظارنا وعلى أسماعنا كمواطنين وأمام تراخي منظوماتنا الإدارية والقانونية والرقابية وعدم تصديها له منذ البدايات حتى تغول واستشرى؟!

الفساد جريمة لا تثبث على أحد دون تحقق أركانها والتثبت من وقوع هذه الأركان فعليًا، ومعظمنا ساهم بصورة أو أخرى في السماح لها أن تتطور وتتغلغل بين مؤسساتنا الحكومية.. فالفساد ليس نبتة شيطانية حلت بأرضنا؛ بل موجودة في أي مجتمع وعصر، والمجتمع هو من يُمكِّنه من النمو والتجذر. ألا نتذكر أن الأمر وصل بنا أن من له قريب مدير أو مسؤول ولو من طرف القبيلة ولا يساعدهم ويقف معهم باستغلال منصبه- هذا مع علمنا جميعاً أن ذلك غير مشروع- ونصرة الأهل والقبيلة سواء بتوظيف أحدهم أو الحصول على منفعة أو خدمة ما، أننا نعتبره شخصًا غير سوي، وضعيف أو طيب لا ينفع ولا يضر، وندفع نحن به دفعًا لأن يصبح "فهلوي"؟ أليس هذا فتح لباب الفساد في أبسط صوره؟ نعم، لقد فتحنا للفساد الأبواب وأضفينا عليه الشرعية والنُبل أيضًا، أليس هذا هو الفساد في أبسط صوره الذي شجع وأدى إلى ما هو أكبر.. وهكذا دواليك؟!

اليوم نحن في أفضل الأوقات لنا كحكومة ومواطنين، لكي نضرب بأيدٍ من حديد على هذا الغول الذي عصف بنا؛ فالمرحلة القادمة لا تحتمل فسادًا آخر، وعلينا سن القوانين وتغليظ العقوبات كما غلظنا عقوبة الإعدام الحالية في قضايا الاتجار بالمخدرات، حتى نبتة القات شملها التجريم. أليست هذه أقل خطورة على المجتمع من سلب وسرقة مقدراته ومعيشة أفراده وقوت يومه، وكلاهما في النهاية ينخر في جسده ويقضي عليه!

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إنها قاعدة كونية لعلنا نستوعبها.

فاللهم وفق سلطاننا، سلطان التجديد، لما فيه الخير والسداد وارزقه البطانة الصالحة، فنحن نمر بمحنة يجب أن تتضافر فيها كل الجهود؛ حكومة وشعبا، ونحن والحمدلله شعب مشهود له بالأخلاق الحميدة وكريم الطباع والنخوة والمحبة والتعاون والتعاضد فيما بيننا، وقد وهبنا الله قيادة حكيمة كريمة محبة لشعبها، ولن يُضار بيننا أحد منِّا بإذن الله وبالصورة التي أخذ البعض منا للأسف الشديد في تصويرها عنا ونشرها مستغلين وسائل العالم الافتراضي، متناسين أننا نعيش في عالم القرية الواحدة اليوم وغسيلنا منشور على الملأ للعالم أجمع.

كلمة أخيرة لكل مُغرد على وسائل التواصل الاجتماعي وكاتب: قد تكون أخي/ أختي بمسلكك هذا أشد خطرًا وضررًا علينا مما تظن، فبشّر ولا تنفّر، وحفّز وبُث الإيجابية؛ لأنها تُعلي الهمم، أما السلبية فدائمًا هادمة بغيضة، وراعي الله في كلمة تقولها، ولك أن تنتقد، لكن ليس لمجرد النقد، واقترح الحلول ولا تكتفي بنشر الإحباط، وكن معول بناء لا هدم، فكُلنا في هذا البلد المبارك بإذن الله- والذي دعا له رسول الله- في مركب واحد، ولنُحافظ على سلامته ومتانته؛ ليعبر بنا بحر الحياة بسلامٍ.