مَن قتل فاطمة؟

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

نفث دخانَ السيجارة، وألقى المتبقي منها في كوبٍ من الشاي الساخن، موضوعٍ على الطاولة.. نَظَر إلى الأول: وجهٌ مُمتلئ، وأنفٌ أفطس، وبثورٌ انتشرتْ على جبهته، كان يقلِّب خاتمًا من العقيق الأحمر في بِنصره، ويرِّطب شفتيه كل ثانية، وبُؤبؤ عينه لا يستقر: يمينًا.. شمالاً، ومن ثمَّ يُحدق في وجهي، بينما رفيقه عاقدٌ يديه بتحفُّظ يحتضن عصاه الغليظة، زامًّا شفتيه بصرامة افترَّت شفتيه، قائلاً: "أنا فقط غطيت جثة فاطمة وسحبتها إلى القبو؛ فالأرض باردة جدًّا وهي تحتاج إلى دفء".

حدَّق البدين، ذو الأنف الأفطس، بزميله واستنكر قوله: "أنا لا أعلم من هي فاطمة! ولم أرَ ما حدث! لقد مرَرت بالجوار وسمعتُ صوتًا مرتفعًا.. لا، بل كان خبطًا قويًّا ومن ثم هدوء، انتابني الفضول، ونظرتُ من النافذة، وهذا -أشار إلى زميله الهادئ- يُمسك ساق فاطمة".

تنهَّد الثالث الصَّامت الهادئ، ملامحه جامدة وكأنَّه جهاز قد صَدِأ بفعل الزمن. لفَّ سِبحة من الأحجار الكريمة حول رَسغ يده اليمنى، ثم اعتدلَ في جلسته، وقال بهدوء قاتل: "دخلتُ إلى المكان وفاطمة مُسجَاة على الأرض، هامدة ساكنة لا تتحرَّك، فما ذنبي إذا كان توقيت دخولي خاطئًا؟!!!".

فتح المحقِّق علبة الدخان، وسحب سيجارة، وقال وهو يرفع سبَّابته والإبهام والسيجارة غير المُشتعلة بينهما، وقال: "أنت أيُّها البدين، كُنت تنظر من النافذة، وأنت أيُّها المتحفظ، كُنت في الجوار بالصدفة، وأنت أيُّها الصامت، دخلت إلى المكان في الوقت الخاطئ... إذن؛ لم يقتل أيٌّ منكم فاطمة! وجميعُكم يعرف فاطمة حق المعرفة!!".

البدين صرخ بارتباكٍ مُفجع: "لا، لا، لا، بالطبع لا، وسأقسِم على ذلك، أنا أجبن من أدعس نملة".

تهكَّم المتحفِّظ، وقال بسخرية: "لن تسحَق نملة بيديك، لكنْ بالتأكيد كَفَّاك المنتفختان قادرتان على دق عُنق أحدهم، الكل يعلم أنك تحب فاطمة".

وقفَ البدين، وأمسك بتلابيب المتحفِّظ، والهلع ينفضه نفضاً: "ماذا تقول؟!! أنا لم أقتل فاطمة، ثم جميكم يُحب فاطمة سِرًّا وجهرًا".. أطبقتْ يديُ المتحفِّظ على يدي البدين، وهتف بلهجة المنتصر قائلا: "أريت؟؟؟... أريت؟؟؟ سيهشِّم رأسي مثل فاطمة".

اهتزَّتْ طبقاتٌ من كتل الشحم في جسد البدين، وأفلت تلابيب المتحفِّظ ولوَّح بيديه البدينتين بفزع، ينفي التُّهم التي يحاول المتحفِّظ إلصاقَها به، لم تُسعفه الكلمات التي حشرها الرعب في قصبته الهوائية.

أشعلَ المُحقِّق السيجارة، وقدَّمها للصامت، غير آبهٍ بالمسرحية الصغيرة التي قدَّمها البدين والمتحفِّظ.. أخذ الصَّامت السيجارة، وسحب نفسًا ونفثه، وهزَّ رأسه بمعنى شكراً للمُحقِّق.

سأل المحقِّقُ الصامتَ: "هل تُحب فاطمة؟".

زَفَر الصامتُ دخانَ السيجارة، ثم أطفأ عقب السيجارة، وقال بجمود: "وَمن لا يُحب فاطمة! كُلنا أحببنا فاطمة، وكلنا رَاقب فاطمة، وكلنا تحرَّش بفاطمة، وكلنا تلصَّص على فاطمة في خلوتها، وكلنا قتلنا فاطمة، هل أجبتُ سؤالك؟".

صَرَخ البدين والمتحفِّظ معًا بالنفي القاطع، ثم أردف المتحفِّظ: "لا،،، لم نقتُل فاطمة، وإنما تلصَّصنا عليها، وراقبناها، لقد أحببنا فاطمة، وهي تتمنَّع أحيانًا وتستجيب أحيانًا، ولا نعلم ماذا تريد؟ ومن تُحب منِّا؟ أم تحب شخصًا آخر".

رَمَى الصَّامت أعقاب السيجارة في كوب شاي بارد، وقال بتهكم ساخرًا: "إذن، تعترف أنَّ الغيرة نهشت قلوبنا، وتلصَّصنا عليها، نريد أن نعرف الغريم وأرعبناها، إلى أن سقطت من السلالم وتهشَّم رأسُها على  الأرضية، هنا -وأشار إلى القاع". وأكمل، وقد علا صوته: "كُلنا قتلنا فاطمة، لا تنقُض الحقيقة، ولا تُجمِّلها، كلنا جناة مجرمين. وأنت أيُّها المحقِّق، لقد أحببت فاطمة سرًّا، لعلك أنت أيضًا شاركت في قتل فاطمة". ارتفعَ صوتٌ عبر مُكبِّر الصوت: "STOOOOP... مُمتاز، انتهَى التصوير، مشهدٌ رائع، لننتقل إلى المشهد التالي".

سألَ المُخرج الكاتبَ: "ما هي الحقيقة؟ مَن القاتل؟". الكاتب: "لا حقيقة كاملة؛ فالحقيقة كما تراها أنت، أو أراها أنا، هي أجزاء من الحقيقة، لا مُطلقَ في الإنصاف، إنما هي إنصاف للمُطلق".