خالد بن الصافي الحريبي
تقول إحدى قواعد العشق الأربعين الجميلة: "لا يعني الصبر أن تتحمل المصاعب سلباً، بل يعني أن تكون بعيد النظر بحيث تثق بالنتيجة النهائية التي ستتمخض عن أي عملية، ماذا يعني الصبر؟ إنه يعني أن تنظر إلى الشوكة وترى الوردة، أن تنظر إلى الليل وترى الفجر، أما نفاد الصبر فيعني أن تكون قصير النظر ولا تتمكن من رؤية النتيجة، إنَّ عشاق الله لا ينفد صبرهم مُطلقاً، لأنهم يعرفون أنَّه لكي يُصبح الهلال بدراً، فهو يحتاج إلى وقت".
مع ذكرى هذه الأيام المُباركة التي تلي "23 يوليو" تزورنا ذكرى أهمية قيمة الصبر لتحقيق رؤانا. وذلك لأننا في رحلتنا المشتركة الشاقة نحو التَّعافي من الجائحة الصحية ندرك أننا لن نتعافى حتى نستوعب العبرة من هذا الابتلاء، وهي أن أيِّ تعافٍ سطحي لا يُعول عليه ما لم يصحبه حوكمة رشيدة واستثمار صبور في الكفاءات المبتكرة.
فما هي أفضل الممارسات العالمية في الصبر، وبذل جهود تحويل الرؤى الهادفة إلى استثمارات صبورة في الكفاءات وابتكاراتهم النافعة للنَّاس؟ وما هي بعض التجارب المحلية و"متلازمة شارع الشروق"؟
"متلازمة شارع الشروق" وأفضل الممارسات للتعامل معها
في كل أحياء العالم زاوية أو شارع يجمعنا بأولاد حارتنا من التُّجار، ومع رذاذ الخريف المنعش يتذكر الإنسان شاطئ الحافة في ولاية صلالة وشارعها الحيوي التاريخي التجاري سابقاً الأشهر "شارع الشروق" رحمه الله. ومما ميَّز شارع الشروق أنه ما إن يعرض تاجر ما بضاعة جديدة حتى يتداعى له سائر الشارع ويعرض نفس البضاعة المستوردة، حسب ما قاله العلامة ابن خلدون أن "المغلوب مولع بتقليد الغالب". وهذه الظاهرة الموجودة في كل ولايات السلطنة؛ بل في كل مدن العالم، أو ما أسميها "متلازمة شارع الشروق"، تنتشر في شكل مقاهٍ متخصصة أو مطاعم برجر ومشاوي أو محلات موضة، أو تنحسر حسب عزيمة وصبر الكفاءات المؤمنة بالاستثمار في الابتكار التي تتغلب على إغراءات تقليد الغالب، ولنا في جمهورية الصين الوطنية المعروفة بتايوان خير مثال. ففي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي كانت تايوان، لا تزال تُعاني من متلازمة شارع الشروق لدرجة أن سمعتها وهويتها في الثمانينات أنها بلد المنتجات التي تقلد جاراتها "التنين الأم" جمهورية الصين الشعبية، والغالبين من القوى الاقتصادية الغربية. وشاءت الأقدار أن يثمر صبر قياداتها في الثمانينيات، وأصبحت الكفاءات المبتكرة التايوانية مطلوبة في الغرب والشرق، بعد أن استثمرت تايوان على مدى 50 عامًا في تعليمهم العلوم النافعة وإكسابهم أخلاقيات العمل التي تتناسب مع ثقافتهم الكونفوشيوسية.
وفي منتصف الثمانينيات بادرت قيادات تايوان لدعوة كفاءاتها المؤمنة بالخروج من عباءة متلازمة شارع الشروق، وتنفيذ مهمة النهوض بمعهد أسس لترجمة خارطة طريقها لتكون دولة الاقتصاد الرقمي الرائدة في العالم اسمه "معهد ITRI" أو معهد أبحاث التكنولوجيا الصناعية، واليوم على الرغم من أنَّ تايوان دولة بموارد طبيعية محدودة للغاية، وليست واسطة عقد العالم جغرافياً وتاريخها الحديث يزيد على 100 عام بقليل ومحاطة بجيران أكثر منها مالًا وأعز نفرًا، إلا أن تجربة "معهد ITRI" يشار إليها بالبنان، وتسيطر تايوان على صناعة حوالي 70 بالمئة من أهم أجزاء كل أجهزتنا الإلكترونية؛ وهي أشباه الموّصلات عبر إحدى استثمارات المعهد وهي شركة "TSMC" التي وصلت قيمتها خلال 30 عامًا من صفر إلى أكثر من تريليون دولار أمريكي، ويعود لابتكاراتها التصنيعية الفضل في تيسير إنجازنا للأعمال وتسليتنا منذ بداية هذه الجائحة التي ضاعفت من استخدامنا للأجهزة الإلكترونية بصورة تسببت في زيادة أسعار كل الأجهزة الإلكترونية بسبب زيادة الطلب وقلة العرض.
برنامج "كفاءات 2307"
محليًا.. استثمرت الحكومة في عدد من البرامج الوطنية الحكومية والخاصة، بهدف إكساب الكفاءات الوطنية مهارات بناء ثقافة الإنتاج والتصنيع المتقدم والخروج من متلازمة الاستهلاك والتقليد. وعلى مستوى القطاع الخاص والشركات الناشئة تحديدا، حظيتُ بشرف العمل مع فريق من كفاءاتنا الشابة في مجال هندسة الإجراءات التي استثمرت فيها السلطنة في الجامعات المحلية وفي الدول المتقدمة صناعياً مثل ألمانيا، وقادت تدريب هذا الفريق المهندسة السابقة سميرة بنت حمد الصبحي وزملاؤها. وركز الفريق على التنفيذ السليم عبر تحالف يضمن قيمة محلية مضافة لبرنامج تدريبي اسمه "2307" للتقنيات الناشئة والثورة الصناعية الرابعة مدة مرحلته التجريبية الأولى "Pilot Project" 6 أشهر، ويهدف لصقل قدرات 2307 كفاءات وطنية ليكونوا نواة كفاءات تقنيات تصنيع متقدمة يستثمر في تحويل المبتكرين منهم إلى علماء بيانات بحلول العام 2025، متخصصين في الدمج بين مجالات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والأتمتة والطباعة الثلاثية الأبعاد.
ونجحت المهندسة سميرة وزملاؤها وفرقهم في الجانب التدريبي من البرنامج الذي نفذه تحالف الشركات الناشئة، وأثمر تشكيل فرق من 4 شركات ناشئة متخصصة؛ وهي "إرث المتكاملة" في مجال الأتمتة و"إنفوسبارك" في مجال أساسيات الذكاء الاصطناعي و"إنوتك" في مجال الطباعة الثلاثية الأبعاد، و"العنصر" في مجال إنترنت الأشياء. ولم يكن هذا البرنامج ممكنًا لولا الرعاية السخية من شركة تنمية نفط عُمان، وإشراف ودعم كريم من وزارة النقل وتقنية المعلومات والاتصالات. وتمكن البرنامج من إطلاق الإمكانيات الابتكارية الأساسية لخمسين متدربًا من خريجي الجامعات والكليات المهنية؛ الذين تمكنوا من عرض إمكانياتهم القيمة في دمج أساسيات الذكاء الاصطناعي، وخاصة تقنية التعرف على الصوت مع التصنيع المتقدم، وهي من أهم مهارات تقنيات المستقبل.
أما في الجانب العملي وبعكس التجربة التايوانية؛ فلم يوفق الفريق الذي أشرفتُ عليه في الجانب التشغيلي في مرحلته التجريبية الأولى في التحلي بالصبر وتطوير ممارسات حوكمة رشيدة، والتوفيق بين توقعات العاملين المادية التي يحدها توجه سوق التشغيل الجديد نحو عقود العمل لبعض الوقت وعقود الاقتصاد المستقل "Gig Economy"، وبين تطلعات الشركات الكبرى المحلية والجهات الحكومية. وعلى الرغم من ثقل وطأة الفشل، خاصة في مجتمعات تعاقب رواد الأعمال على المخاطرة، إلا أن التجارب المحلية التي لم توفق قيمة في بناء ثروة بيانات معرفية تمكننا كمجتمع واحد من تكملة مسيرة بعضنا البعض، في طريق الألف ميل نحو بناء إنسان مبدع ومبتكر يعيش حياة كريمة.
"قد كان عندي بلبل"
من أجمل ما قيل في مثل أيامنا هذه التي تلت 23 يوليو (وأنا التلميذ سأبقى من أجل العلم مجاهد… سنرى للعلم معاهد وسنبذل كل الجهد لنبقى مع آمال القائد، أمجاد عمان ستعود بفضل التوجيه الرائد، قيد الأرض وناصر وجلندى ومهنا، والشعب الصاعد سيرون بنا أبناء يبنون الجيل الصامد، جند نحن لقابوس ولمن يبني للدار محامد".
تلهمنا اليوم قصيدة "صوت للنهضة نادى" للشاعر المرحوم عبدالله الطائي لنحمل أمانتنا لكوننا الجيل الصامد لنعد أجيالنا لزمان غير زماننا. وذلك عبر تأسيس برنامج موازٍ لبرنامج التوازن المالي، يركز على الاستثمار في الجانب الإنساني لكفاءاتنا وبالذات عبر برنامج "توازن للحوكمة الرشيدة وأخلاقيات العمل Good Governance & Work Ethics" التي أهمها الصبر.
فأجيال اليوم كالبلابل، قدر لها الله- عز وجل- أن تشدو بأعذب ألحانها عندما تكون في طبيعة غناء تقدرها وتغني روحها الجميلة عن الاغتراب. والكفاءات كالبلابل إن عاشت في ثقافة إغراء أو إكراه فقط، نفد صبرها سريعًا، وطارت عن بيئتها جسميًا أو ذهنيًا. وهذا يذكرني بنشيد درسناه في المدرسة وأعاد تلحينه شاب مبدع اسمه زيد الحارثي وهو صانع محتوى في اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي:
"قد كان عندي بلبلٌ حلو طويل الذنب
جميل الشكل ريشه يلمع مثل ذهبِ
وكان يشدو دائماً بكلّ لحنٍ مُطرِبِ
ولم أكُنْ أمنعُه من مأكَلٍ أو مَشْرَبِ
فَفَرّ منّي ونأى بدون أدنى سَبَبِ
وقال لي: "حُرّيّتي لا تُشْتَرى بالذهَبِ"