هل تدعم أمريكا الديمقراطية حقًا أم مجرد ديمقراطيات غنية أخرى؟ (1 -5)

الصدام بين الاستبداد والديمقراطية

مقالة بقلم جيك ويرنر

ترجمها بتصرف: عبيدلي العبيدلي

"إن حرب واشنطن ضد الاستبداد ستفشل إذا تركت الفقراء" جيك ويرنر **.

في الخطاب الذي ألقاه في فبراير (2021)، رسم الرئيس الأمريكي جو بايدن صورة لعالم مُقسَّم بشكل أساسي بين الديمقراطية والاستبداد. فقال حينها: "نحن أمام منعطف واضح، بين أولئك الذين يجادلون بهذا، في ضوء كل التحديات التي نواجهها... أن الأوتوقراطية هي أفضل طريقة للمضي قدمًا... وأولئك الذين يفهمون أن الديمقراطية ضرورية... لمواجهة تلك التحديات ". وأصر بايدن حينها على أن أجندته الداخلية والخارجية تضعان الولايات المتحدة في أفضل موقع ممكن لكسب هذا الصراع التاريخي.

لكن هذا التركيز على الصدام بين الاستبداد والديمقراطية يخفي انقسامًا أعمق في الجغرافيا السياسية: الصراع بين الأغنياء والفقراء. فبينما تتمسك الولايات المتحدة بقيادة الديمقراطيات في العالم، لكنها في حقيقة الأمر تقف معارضة لمعظم الديمقراطيات في العديد من القضايا العالمية الغاية في الأهمية.  تتصدر مثل هذه القائمة جائحة كوفيد-19 قبل أن تصل إلى قواعد التجارة العالمية. ومن تغير المناخ إلى التنمية الاقتصادية، تعمل الولايات المتحدة بنشاط على إحباط أولويات معظم الديمقراطيات في العالم. في هذه العملية، تعمل السياسة الخارجية للولايات المتحدة- باسم الديمقراطية- على زيادة تفاقم الأزمة العالمية للديمقراطية، ونزع الشرعية عن سلطة الولايات المتحدة.

وتتشارك الديمقراطيات الغنية والفقيرة في العديد من المشاكل. 40 عامًا من الثروة المركزة بشكل متزايد، وتدهور المنافع العامة، وتآكل استقرار العمال، وتفكك الشعور بالانتماء الجماعي.  كل هذه القضايا وفرت مادة خام للقومية، والعنصرية، والاستبداد في الديمقراطيات على جميع مستويات الثروة. وإدارة بايدن تتفهم ذلك. ففي خطاباته المتتالية، يحرص بايدين على توضيح نقطة أساسية: الناس يفقدون الثقة في الديمقراطية، لأن الديمقراطية لا تلبي احتياجاتهم. في أجندته المحلية، يدرك بايدن أن الاستثمار في الصالح العام، وتوفير قدر أكبر من القوة والأمن لليد العاملة، وتعبئة الناس لمواجهة أزمة المناخ، كلها عوامل حاسمة لمشروع صد السياسات غير الليبرالية وإحياء الديمقراطية في الولايات المتحدة.

ورغم كل ذلك، تعاني سياسة بايدن الخارجية من حالة انفصام غريبة. فبدلاً من اتباع استراتيجية عالمية لإحياء الإيمان بالصالح العام، يركز بايدن على منافسة الصين - كما لو أن الناس خارج الولايات المتحدة يقدرون الديمقراطية ليس لأنها تمكّنهم، ولكن لأنها مرادفة لقوة الولايات المتحدة. ويجادل بايدن بأنه من أجل الديمقراطية، يجب على الأمريكيين "تطوير منتجات وتقنيات المستقبل والسيطرة عليها". قد يساعد ذلك المستثمرين الأمريكيين، لكنه ليس رؤية لاقتصاد عالمي يمكن لجميع الديمقراطيات أن تحققه لشعوبها.

هناك مقاربة مختلفة ممكنة، قادرة على عكس المد العالمي المناهض للديمقراطية من خلال فتح فرص جديدة للناس في جميع أنحاء العالم. سوف يتطلب ذلك الأمر  إطارًا أفضل لفهم صراعات اليوم. لكن واحدًا أكثر رحابة أفضل من ثنائي قصير النظر يضع الديمقراطية الليبرالية في مواجهة الآخر الاستبدادي.  

ديمقراطيات غير مرئية

قد يبدو الادعاء بأن الولايات المتحدة على خلاف مع معظم الديمقراطيات متناقضًا. ولكن الأمر يبدو كذلك  فقط لأن القادة ووسائل الإعلام الأمريكية غالبًا ما يخلطون بين "ديمقراطيات العالم" وعدد قليل من الدول الغنية، بما في ذلك القوى الاستعمارية السابقة في أوروبا (واليابان) والدول التي بدأت كمستعمرات استيطانية، مثل أستراليا وكندا. على سبيل المثال لا الحصر، تناول مقال نُشر في العام 2020 في نيويورك تايمز نتائج استطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث(Pew Research Center ) على النحو التالي: "عدم الثقة في الصين يقفز إلى مستويات عالية جديدة في الدول الديمقراطية". ومع ذلك، لم يكن الاستطلاع حول "الدول الديمقراطية". إذ لم يشمل ذلك الاستطلاع معظم أكبر الديمقراطيات في العالم - دول مثل البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك وجنوب إفريقيا - ولم يتم تضمينه أيضا العديد من الديمقراطيات الأصغر مثل بوتسوانا وبابوا غينيا الجديدة وسريلانكا. لقد كان بدلاً من ذلك استطلاعًا للرأي (كما اعترف مركز بيو) في "الاقتصادات المتقدمة".

ووفقًا لمؤشر الديمقراطية الذي يأخذ به مركز الاستطلاعات التابع لمجلة "الاقتصادي" البريطانية (Economist Intelligence Unit’s Democracy Index)، فإن البلدان النامية الديمقراطية هي موطن يحتضن ضعف عدد سكان الديمقراطيات الغنية -وربما يصل الرقم إلى  ثلاثة أضعاف هذا العدد، إذا اعتبر المرء "أنظمة هجينة" شبه ديمقراطية مثل تلك الموجودة في بنغلاديش ونيجيريا وتركيا. ومع ذلك، لا تزال العديد من الديمقراطيات الفقيرة في العالم هامشية إلى حد كبير في النظرة العالمية لصانعي السياسة في الولايات المتحدة. إنهم يدخلون في محادثات بيلتواي (Beltway Conversation) فقط عندما يهددون الاستقرار الإقليمي أو يصبحون مفيدين في الصراعات الجيوسياسية الأوسع.

هذا التمويه مفهوم؛ ذلك لكونهم على وجه التحديد فقراء، ومن هنا نجد أن الديمقراطيات في الجنوب العالمي تمارس تأثيرًا أقل بكثير على السياسة العالمية والاقتصاد العالمي من نظيراتها في الدول الغنية. تمثل الديمقراطيات الغنية حوالي 15 في المائة من سكان العالم ولكنها تتمتع بـ 43 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفقًا للقوة الشرائية (59 في المائة بمعيار الدولار). وتصل ميزانياتها العسكرية إلى ما يقرب من ثلثي الإنفاق الحربي في العالم. يشترك العديد من الأمريكيين أيضًا في الشعور بالتقارب الثقافي أو العرقي مع الديمقراطيات الغنية التي لا تمتد حدودها إلى الديمقراطيات الفقيرة.

يؤدي الخلط بين الديمقراطية والثروة إلى تشويه جذري في التفكير الاستراتيجي حول ما يعتبره قادة الولايات المتحدة في كثير من الأحيان أولوية قصوى: ضمان ازدهار الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. كانت الديمقراطيات الفقيرة والغنية على حد سواء تتحرك في اتجاه غير ليبرالي في السنوات الأخيرة. لكن السياسة الخارجية الهادفة إلى تجديد الديمقراطية ودعمها ستفشل إذا كانت قائمة فقط على تفضيلات الدول الغنية. وذلك لأن الديمقراطيات في جنوب الكرة الأرضية، في أغلب الأحيان، لها مصالح مختلفة تمامًا عن مصالح الديمقراطيات الغنية - وهي مصالح تتماشى في كثير من الأحيان مع البلدان النامية الأكثر استبدادًا. بعبارة أخرى، فإن أحد تأثيرات تأطير الصراع الرئيسي في العالم اليوم يقوم على أنه صراع بين الديمقراطيين والسلطويين، مما يجعل عدم المساواة الذي يتسم به الاقتصاد العالمي عنصر غير مرئي، والذي غالبًا ما يكون الانقسام المترتب عليه.

-------------------------------------------

** جاك ويرنر زميل باحث بمرحلة ما بعد الدكتوراه ومتخصص في الأبحاث العالمية حول الصين، في مركز تطوير السياسات العالمية بجامعة بوسطن الأمريكية. وقد نال درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة شيكاغو، وبعدها اشتغل في تدريس النظرية الاجتماعية والتاريخ الصيني بصفته زميل هاربر- شميدت في جمعية زملاء جامعة شيكاغو.

-------------------------------------------

نبذة عن فورين أفيرز (Foreign Affairs).

 تقول  المجلة في تعريفها عن نفسها على موقعها على الإنترنت (Foreign Affairs Homepage) أنها منذ تأسيسها في العام 1922، كانت فورين أفيرز (Foreign Affairs) "الشؤون الخارجية"  المنتدى الرئيسي للمناقشة الجادة للسياسة الخارجية الأمريكية والشؤون العالمية. وقد أصبحت الآن مؤسسة إعلامية متعددة المنصات تصدر عنها  مجلة مطبوعة. وتنشر موادها على موقع ويب وموقع للجوال وتطبيقات متنوعة. يشرف على مجلة الشؤون الخارجية مجلس العلاقات الخارجية (CFR)، وهو منظمة غير ربحية وغير حزبية مكرسة لتحسين فهم السياسة الخارجية للولايات المتحدة والشؤون الدولية. صدر العدد الأول من المجلة ببيان يحدد رؤية تحريرية ظلت ثابتة منذ ذلك الحين.

إشارة:

تثير السياسة الخارجية الأمريكية الكثير من الجدل في صفوف قطاعات واسعة من العرب المتابعين لتلك السياسة، بمن فيهم من يعملون في دوائر صنع القرار. وليس هناك من وعاء نشر يكشف الكثير من خفايا تلك السيسة أكثر من فورين أفيرز (Foreign Affairs)، التي كانت في السابق مجرد مطبوعة فصلية، لكنها تحولت اليوم إلى ما هو أكثر من ذلك كما تقول هي عن نفسها.

ولمن يريد فهم تلك السياسة بعمق، ومن خلال ما تنشره فورين أفيرز (Foreign Affairs)، ينبغي عليه أخذ الحيطة والحذر، ويحرص على قراءة ما بين سطور ما تنشره. فعلى الرغم من هالة الموضوعية التحليلية التي تريد المجلة أن تحيط بها نفسها، لكنها تبقى في نهاية الأمر قربية جدا من دوائر صنع القرار الأمريكي.