أحلام على شاطئ المرفأ القديم

 

فوزي غلاب

على تلك الحافة الصخرية الناتئة على طرف المرفأ القديم جلس يسترجع ذكريات صحبته الطويلة مع مياه البحار وما تبطنه من غرائب يعجز اليوم عقله الهَرِم عن تمييز ما كان منها واقعاً عن ذاك الذي لا يعدو كونه من نسج خيالات البحَّارة في لحظات السُكر وأحلام اليقظة..

كان نظره منصباً على تلك السفينة القديمة التي ترقد في الجانب المقابل من المرفأ، والتي اعتاد رؤيتها هناك منذ طفولته..

مازال يذكر حكايات جده سالم عن تلك السفينة التي تعود إلى جماعة من القراصنة الأسبان الذين اعتادوا مهاجمة السفن القادمة من الهند والصين، أو تلك المتوجهة إلى الخليج العربي.

ترددت في أذنيه كلمات جده عن زعيم القراصنة الذي كان في السابق أحد قادة الأرمادا الأسبانية، ولكن الغيرة ومؤامرات البلاط حالت بينه وبين أن يصبح قائداً عاماً لأسطول الأرمادا العظيم.

  قرر التمرد، واصطحب معه رجاله الأوفياء في رحلته إلى المجهول.

 قام بالسيطرة على مجموعة من جزر الأرخبيل الأندونيسي المهجورة التي تعرف عليها من خريطة قديمة أهداها له بحار هولندي عجوز، لتكون مقراً خفياً لأسطوله الصغير.

توالت أعماله الانتقامية من السفن الأسبانية والبرتغالية والبريطانية التي تجوب تلك الأنحاء، وتضخمت ثروته، وانضم إليه الكتير من الجنود البريطانيين الهاربين وكذلك بعد قطاع الطرق والمرتزقة ليصبح ملكاً على تلك الزمرة من الصعاليك التي تكسب قوتها من قرصنة السفن ونهبها.

توسعت شبكة علاقاته ونفوذه وتناقل البحارة الحكايات عن قوته وذلك التاج الذي يرتديه دائماً في غاراته على السفن والذي يشبه لحد كبير تاج ملوك أسبانيا.

 حتى أن شركة الهند الشرقية بعد أن فشلت في القضاء عليه اضطرت للتفاوض معه وإعطائه إتاوة سنوية نظير حماية أسطولها التجاري في رحلاته عبر المحيط الهندي وبحر العرب..

 واستمر القرصان أو الكابتن مينديز - كما يحب أن يناديه رجاله- ملكا غير متوج على مياه المحيط إلى أن جاء ذلك اليوم الذي نجح فيه الأسطول البرتغالي في الإيقاع به، بعد أن عرفوا بتردده المُستمر على هذا الميناء المهجور على سواحل عُمان لمقابلة أسرته الصغيرة...

تلك الأسرة التي توارت عن الأنظار وظلت أخبار وجودها حكرا على عدد محدود من صفوة رجاله.

ولكنه المال هذا الساحر القادر على تحطيم أواصر الثقة وزعزعة ولاء خير الأصحاب.

كانت البداية في لقاء عابر بين زراعه الأيمن رودريجيز وأحد الجواسيس البرتغال في إحدى حانات  كلكتا، وحصوله على عرض مبطن بالعفو عن جرائمه السابقة، والعودة إلى وظيفته القديمة ككبير نوتية الفرقاطة الملكية البرتغالية..

كان كابتن ميجيل قد اختار تلك البقعة الهادئة لإقامة محبوبته إيميلي وأم ابنته الوحيدة اليانورا بعيداً عن كل أعين أعدائه. ميناء صيد قديم هجره البحارة والصيادون لكثرة الأعاصير والأنواء التي تضربه من حين لآخر، حتى العرب من أهل المنطقة اختاروا الإقامة في أعالي الجبال التي تفصل الشاطئ عن الوادي الفسيح الذي يليه.

كانت إيملي هي حبه الوحيد وإحدى وصيفات ملكة أسبانيا نجح في اختطافها من القصر الملكي لتهرب معه بعد أن واعدها أكثر من مرة في سراديب القصر وحدائقه..

أما اليانورا ففي عينيها يرى زرقة الأوقيانوس الممتدة إلى ما لا نهاية، وفي بياض وجهها انعكاس ضوء القمر..

  لازال يذكر كلمات الجد سالم التي تصف الهجوم.. كان

 الهجوم عنيفاً في تلك الليلة. حاصرت مجموعة من السفن الحربية سفينته الصغيرة وأمطرتها بوابل من القذائف،  كل ما أهمه في تلك الليلة أن تبقى إيملي وابنته في أمان.

أعلن استسلامه ولكن أثناء الخروج من السفينة إلى الشاطئ كان قد حسم أمره بالانتحار. قفز من أعلى السفينة إلى قاع البحر.. حاولت السلطات البرتغالية الوصول إلى الجثة ولكن بلا جدوى..

وعادت القصص والأساطير لتنسج عنه من جديد. فبين قائل أن الجثة قد افترستها سمكة قرش، وبين مشاهدات بعض البحارة لشخص يشبهه في شواطئ أفريقيا الشرقية، وحكايات عن تحوله إلى شيخ عربي يعيش وأسرته متخفياً في جبال اليمن...

ولكن لا أحد يعرف حقيقة ما آل إليه حال هذا المغامر، أو حتى مصير عائلته الصغيرة..

ترددت في أذنه آخر كلمات الجد سالم.. رحم الله الكابتن ميجيل إيناسيو مينديز فعلى الرغم من حياته المليئة بالأخطاء والجرائم إلا أنه كان أول من علمني حب الإبحار وحياة البحارة..

ومع وصول الشمس إلى مكمنها الخفي استعد لمغادرة الميناء وفي رأسه يدور سؤاله الدائم الذي فشل في الحصول على إجابة شافية له من الجد سالم..

 كيف عرف الجد سالم تفاصيل تلك الحكاية وما هي علاقته الغامضة بهذا البحار المتمرد؟!

تعليق عبر الفيس بوك