دارين الاستثنائية

خالد بن الصافي الحريبي

Khalidalharibi@gmail.com

كيف ستُقيِّم حياتك؟ على الأغلب ستتنوع إجاباتنا على هذا السؤال الوجودي لأنه "تتعَدد الطُرُق للحقيقة بتعُدد سَالِكيها"، كما آمنت المرحومة دارين بنت د. مهدي جعفر أحمد اللواتي؛ شخصية هذا المقال التي انتقلت إلى الرفيق الأعلى قبل حوالي عام.

وعلى الرغم من مرور عامٍ على وفاتها، إلا أنَّ تدوينات دارين العميقة لا تزال تُؤثر في عشرات الآلاف من مُتابعيها على حساباتها العامة @dareen_mehdi في السلطنة وحول العالم على الرغم من أننا لم نعرفها عن قُرب. وهذه دعوةٌ للاطلاع من نافذة تدويناتها على روحها المرحة وابتسامتها المُشرقة وشخصيتها البسيطة والمُتواضعة، ولذلك ستُلاحظ أنها تلتمس أن لا يصفها أحد بالـ "مؤثرة" أو يعتبرها "قدوة" أو يُسميها "ناشطة"، ولو كان قُدّرَ لها أن تعرف أن أحد مُتابعيها يصفها بـ"العبقرية" لحَظَرَت حسابه؛ لكن عبقريتها الاستثنائية تُبيح المحظور فقد فاقت جيلها في مجال إيصال فكرٍ ورسائل عميقة وهادفة عبر سرد وصناعة أحسن المحتوى والقصص الشيّقة أو ما يُسمى بالـ"Storytelling". كما سترى أن كل رسائلها ترتكز على إيمانها بأننا علينا جميعًا أن نعِي أمانتنا العظيمة؛ لأنَّ الإنسان "خليفة الله في الأرض" وأن على كلّ جيل أن يكون خير زكاة وأقرب رُحماً وأكثر إسهاماً في الاقتصاد الإبداعي وصناعة المحتوى و"المضمون" الهادف من الجيل الذي يسبقه تجاه طبيعتنا وبيئتنا واستدامتها وتجاه وطننا وشبابِه. وأنّ على كل جيل، وجيل الشباب بصورة خاصة، أن لا يستسلم للسلبية ولَعِب دور الضحية الذي لا يليق بالإنسان "خليفة الله في الأرض". ولا زلت أذكر أنها لم تستطع حبس دموع فرحها بالخطاب السامي الثاني في فبراير 2020 الذي أكدّ فيه جلالة السُّلطان المعظم- أيّده الله- على "تلّمس تطلعات الشباب والاهتمام بالتعليم والابتكار ومبادئ الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والعدل والكرامة وحرية التعبير". ومن هذا المنطلق فقد استثمرت دارين طاقتها ووقتها الثمين لبناء أثرٍ طيبٍ باقٍ ويتمدد، بأسلوبٍ محلي سلسٍ وبسيطٍ ومتواضعٍ وعصريٍ وصريح؛ وعلى سبيل المثال نظّمت مع فريقٍ مُبدع سباق الابتكارات الخضراء لإلهام المُجتمع للإقبال على المشاريع الناشئة المُستدامة؛ واليوم في ليالي الجائحة الظلماء يُفتقد بدرُ صُناعِ أحسن القصص عن الاستدامة.

وفيما يلي أسردُ بعض المقتطفات البسيطة من تدويناتها العميقة والفعّالة في إيصال رسالة استلام وتسليم الأمانة إلى كافة أجيال مجتمعاتنا؛ سواءً "جيل ألفا" (مواليد 1996- 2010) الذي يذكرني ميله لفكرة أن "الغربة هي الحل" بأُغنيةٍ من التراث الجزائري تقول "يا رايح وين مسافر؟"، أو "جيل الألفية" (مواليد 1980- 1995)، أو جيلي "جيل إكس" الذي يسبقه، أو "جيل النهضة المباركة" الذي عاصرها وما قبلها.

حياة واحدة

"هي حياةٌ واحدة- لهذا الجسد على الأقل- يا تقرر تعيشها بما يُرضي ضميرك، ويُسعد قلبك، ويدخل الضوء إلى أعماق روحك، ويخلي النسمة العليلة تهّب في ذهنك، ويخلي كل خلية في جسمك تبتسم وتبتهج في جسدك يا بلاها. يقول لك المشاعر السلبية التي تشعر بها، من ظلم، عدم القدرة على المُسامحة، الألم، وغيرها، قبل أن تظن أنك تؤثر بها على الآخرين، استوعِب أن تأثيرها يمسّك أنت أولًا وأخيرًا... اليوم نختار العزلة التي نصّفي بها أذهاننا ونُريح بها أعصابنا، نختار الرفقة التي تُسعدنا، نختار الحب الذي ندين به لأنفسنا، وبالتأكيد؛ نختار إرضاء القادر القدير المُقتدر".

العزيمة

"شفت في حياتي العِلمية والعملية المُتواضعة رائدات أعمال من مختلف الخلفيات الجغرافية والثقافية والعلمية والعُمرية من لم يقف في طريقهن شيء ووصلن لمشروع أحلامهن! وإذا في شيء تعلمناه من هذه الأزمة، فهو أن كل شيء ممكن في البيت! حتى المشاريع التقنية والبيئية والتعليمية وكل المشاريع الأخرى. فأرجو منكن يا أخواتي، ومن يقرأ هذا الكلام ويعرف أحداً يريد أن يبدأ مشروعًا آخر لعبايات وفساتين وبراقع، لا تقعون في فخ الإطار المجتمعي الذي تجد المرأة نفسها بدون ما تحس تنقاد إليه. أنت تقدرين تفتحين مشروع مصنع، أو إعادة تدوير، أو تعليم عن بعد، ما في مشاريع حكر على إخواننا الرجال بس. والتي تعرف تهتم ببيتها وتداري عيالها وزوجها ومشاغلها وتسوي آلاف المهام الأخرى تعرف معنى عزيمة المرأة وقوتها وقدرتها على مواجهة الظروف. أنت لست أقل من أحد وأنا شايفتك، أنت تقدرين!".

الصبر واللطف والسعي

"الشغف لا يأتي فجأة وإنما علينا السعي من أجل إيجاده والحصول عليه وأن نُتقنه. ما عندي شك أنَّ رب العالمين الذي خلقنا في أحسن تقويم خلق أمخاخنا ذكيةً بما فيه الكفاية لتعلّم مختلف الأشياء…لذا يا أصدقاء، انسوا القوالب، دعوا عنكم التوقعات، مرات نعرف أيش نريد بكل سهولة ومرات السالفة تحتاج وقت، كلنا مُختلفين. لكن العبرة في 3 أشياء: الصبر واللطف مع أنفسنا وأرواحنا في مرحلة الاستكشاف، وأخيرًا؛ السعي. لا تخلي شيء في خاطرك ما جرّبته ولا تعلمته. الخيارات لا حصر لها، وهذه الدنيا لازم تنعاش بضمير".

"لكل رواد الأعمال، وأصحاب الأفكار، والمبدعين، والعلماء، والاقتصاديين الطموحين، إذا عندك فكرة لا تتوقف عندها، إذا عندك حلم، لا تنتظر غيرك يحقق لك إياه. إذا هي لك، فهي ستحصل، كيفما كانت الظروف إن شاء الله. بس الموضوع يحتاج منك الخطوة الأولى، والباقي تتوكل على رب العالمين، القدير القادر المُقتدر".

التأمل والحقيقة

"فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ" صدق الله العظيم (الأنعام: 78). مثل ما تَساءل سيدنا إبراهيم عليه السلام عن وجود الإله ورأى الكوكب، ورأى القمر ورأى الشمس، حتى أدرك الحقيقة: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" صدق الله العظيم (الأنعام: 79). كانت لحظة (كسوف القمر) شبيهة لها كثيرا، نحن لا نرث الدين، وإنما نعيشه ونكتسبه ونتفاعل به ومعه عبر فطرتنا. سواء كنّا أنبياء أو بشراً عاديين، يا الله يا عظيم! معجزة الكسوف، مُعجزة خلقنا على هذه البسيطة. معجزة الحياة، ألا تكفينا كإجابة؟".

السلام الداخلي

"الضبابية شعور طبيعي في حياة كل إنسان، المجهول سيكون دائماً موجودا، ولكن انزعاجنا منه وردّة فعلنا هي التي تفرض مشاعرنا وأفكارنا وتدويناتنا. 2020 سطحياً هي سنةٌ موجعةٌ نعم، لكني أظنُ أن عباداتنا جميعًا تمَّ تصفيرها.

أظن أنَّ هذه الحكمة الخفية، أننا تساوينا جميعاً في الظروف والإمكانيات، كأننا ذهبنا جميعنا للحج، لكن من وصل إلى مكة ليس كمن وصل ثم لمس الحجر الأسود. تصفير العدادات في البداية كان الصدمة، التعوّد، الظروف التي أصبحت أقوى منّا، بعد أن تعودنا مناطق راحتنا ومثلما أنتجنا بشكل إيجابي كانت لدينا أيضاً آثام كونية استدعت هذه الاستراحة العظيمة، طبعاً لا يُوجد شيء يحدث اعتباطياً، وتحقيق السلام الداخلي مع رغبتنا في السعي أو حتى رغبتنا في الشكوى هي مربط الفَرَس. لأن عند إنجلاء هذه السنة بكل ما حصل فيها، سيبرز منّا الأفراد المتصالحون حتى لو لم يتحركوا إنشاً واحداً أو من اكتشفوا أرواحهم وهم منعزلون وعقدوا العزم على مصادقتها، من قرأ الكتب، ومن داوى علاقاته الأسرية، من أعلن حبّه، من عمل بإتقان رغم الظروف، من تخلَّص من أغراضه القديمة، من غيّر غذاءه، وعندها لن يكون بوسع البعض منّا الذين مارسوا حياتهم على نفس الإيقاع القديم استرجاع هذه الفرصة وتحقيق النقلة على الأقل بنفس القوة والطاقة والحماس. هل فهمتم الآن رسالة عام 2020؟".

"أتمنى لي ولكم تقّدمٌ وعلوٌّ وصعود وتطور وتنمية كلها محبة وسعادة وتواصل مع ذواتنا التي تستحق كل خير".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.