الاستثمار الأجنبي المباشر.. والنظرة التكاملية له

 

مسلم سعيد مسن

 

تعول رؤية "عُمان 2040" على أداة الاستثمار الأجنبي المباشر لتحقيق الأهداف المخطط لها تنمويا. وقد أظهرت وثيقة الخطة الخمسية العاشرة (2021- 2025)- الخطة التنفيذية الأولى للرؤية- أن الرصيد القائم- التراكمي- للاستثمار الأجنبي المباشر في السلطنة بلغ 14.6 مليار ريال عُماني في نهاية 2019، وبنسبة زيادة وصلت إلى 14.9% مقارنة بعام 2018.

وتُشير آخر التطورات للمنظومة التشريعية الخاصة بالاستثمار الأجنبي المباشر إلى أن عامي 2019 و2018 شهدا استصدار قوانين جديدة تعزز هذه المنظومة مثل: قانون استثمار رأس المال الأجنبي، وقانون التخصيص وقانون الإفلاس وقانون الشركات التجارية الجديد. كما إن الجهات المعنية مثل وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار تقدَم مبادرات من ناحيتي الإجراءات (التراخيص الجاهزة)، وعرض فرص استثمارية معززة بدراسات جدوى مبدئية، كذلك فإنَّ خطة التحفيز الاقتصادي الأخيرة تطرقت بشكل مباشر إلى تحسين البيئة الاستثمارية في ظل الجائحة الحالية، إضافة إلى المبادرات المختلفة والتي تقع تحت مظلة رؤية عُمان مثل: إقامة المستثمر وتعديل التشريعات والقوانين؛ لمنح ميزة أكبر للمستثمر الأجنبي من حيث الإقامة.

كل هذه السياسات والإجراءات والتسهيلات تحاول الجهود الحكومية تنفيذها لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI)، لكن الأسئلة المحورية التي من الواجب طرحها هي: هل كل هذه الجهود- وغيرها في المستقبل المنظور- كافية لجذب نسبة مُعتبرة من تلك الاستثمارات في ظل منطقة تتسم بالتنافس المحموم، خصوصا بعد التأثيرات السلبية لجائحة كوفيد-19؟ وهل كلما قدمنا تسهيلات أكبر لهذا النوع من الاستثمار سنجذب تدفقات أكبر منه، وبالتالي يحصل الاقتصاد على مكاسب أكبر؟ فمثلا بعض الدول أعفت المستثمر من ضريبة الدخل لمدة 50 سنة؟ وهل محددات الاستثمار الأجنبي المباشر بعد الجائحة ذهبت لصالح المتغيرات الكمية (الرسوم- الضرائب..إلخ) على حساب أية متغيرات أخرى؟

العديد من التساؤلات تتبادر إلى الذهن في هذه الآونة عندما تطالعنا دول المنطقة بتسهيلات بلغت إلى حدود منح الجنسية للمستثمر الذي يملك مقومات معينة، وإقامات طويلة جدا تصل لعقود، بينما عمر المستثمر قد يكون أقصر بكثير منها وبعشرات السنين، لكن الورثة يبدو أنهم المستهدفون في نهاية المطاف. والمضي في تقديم تسهيلات لا حدود لها تصل إلى أن تصبح قوانين الاستثمار الأجنبي خارج المناطق الاقتصادية والحرة تمنح نفس المزايا التي تقدمها قوانين الاستثمار داخل تلك المناطق والذي يؤثر على الاقتصاد الواحد؛ بل إن في الإقليم الواحد يجري التنافس إلى درجة لا تُطاق وتدخل مختلف المتغيرات والحسابات التي لا علاقة لها بالاستثمار بشكل مباشر.

قد يقول قائل إن ما على الحكومة سوى تسهيل إجراءاتها وتنسيق سياساتها، وتحديد الخارطة الاستثمارية، وتفعيل برامج التسويق، هذا صحيح وبديهي، وهو ما تسعى له السلطنة حاليًا بغض النظر عن نجاح بعض الاتجاهات الاستثمارية من عدمه أو مدى تحقيق فاعلية بعض البرامج التي يغلب عليها الشق النظري في بعض الأحيان. وعلى ضوء كل ما سبق، فإن أداة الاستثمار الأجنبي المباشر مهمة خلال المرحلة المقبلة، ولتفعيلها بشكل جيد، علينا مواجهة كل التحديات التي تحدق بهذه الأداة محليا وإقليميا- وفق المعطيات الحالية- من خلال برامج وسياسات محددة ومدروسة منها ما يلي:

1- تحقيق توازن بين الميزات؛ إذ لا تعني عمليات جذب الاستثمار الأجنبي الدخول في تنافس محموم، وتقليد يصل بنا إلى أن ندخل في إشكالية ننافس من خلالها حتى مناطقنا الحرة والاقتصادية. لا بُد أن يكون هناك حدود للميزات داخل اقتصادنا للمستثمر. ثم إن الميزات المالية (تخفيض الرسوم والضرائب) لا تعني عند اعتمادها تحقيق المحدد الذي يعتبر عامل الجذب الأوحد في معادلة محددات الاستثمار، هناك التسهيلات والموقع والاستقرار وسوق العمل، والمهارات وجودة المؤسسات التي ينظر لها المستثمر أيضًا، كما أن هناك كلفة مالية لابد من أن أخذها في الاعتبار تتمثل في الخدمات الأساسية الممنوحة من الدولة، واستدامتها وكلفة صيانتها (غالبا تتحملها الدولة)، ويتمتع بها المشروع والمستثمر ذاته عند الإقامات الطويلة.

1-تطبيقات القوانين؛ ونعني هنا أن لا نفرغ قانون رأس المال الأجنبي من محتواه عندما نستثني كمًا هائلا من النشاطات لصالح قطاعات التجارة المستترة، فالنشاط التجاري الذي يمارسه العُماني لابُد وأن تكون الجهات المعنية على دراية به، وبالتالي الاستثناء سيكون في الحدود الدنيا، ولا يجب أن يكون هو الأصل؛ حيث تطالعنا الجريدة الرسمية بقرارات وزارية تُبعد أنشطة جديدة عن المستثمر الأجنبي، ولا ندري كم نشاطا سيبقى في نهاية الأمر؟ كذلك فإن الأمر يحتاج إلى تكامل قانون الاستثمار مع قانوني التخصيص والشراكة.

3-الخارطة الاستثمارية التفاعلية، وهذه الأداة مهمة؛ لأنها الواجهة التسويقية أمام المستثمر الأجنبي، من المهم أن تحتوي على كل التفاصيل (المواقع، المساحات، التراخيص، المدد القانونية، الجهات المشرفة....).

4-السياسة الاستثمارية التكاملية مع الإقليم.. والبديل عن التسابق المحموم في تقديم الميزات السخية هو العمل المشترك من خلال سياسات استثمارية تكاملية مع دول المنطقة والإقليم، وهنا يأتي دور الدبلوماسية الاقتصادية لترسيخ هذا النهج، فالتنافس على الاستثمار الأجنبي في مجال لا تملك الدولة مقومات نجاحه، عملية عديمة الفائدة ولا تفضي إلى نتائج ملموسة، والتكامل هو السبيل، والمصالح المشتركة أساس نجاح انتشار الأثر المرجو من الـFDI. وهناك خطوات مفيدة في هذا الجانب سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي، فمثلا المداولات التجارية والاستثمارية التي تحدث مؤخرًا بشكل واضح بين السلطنة والشقيقة المملكة العربية السعودية، نموذج جيد لتكامل أوسع حتى من زاوية جذب الاستثمار الأجنبي، وتحديد القطاعات والمشروعات والميزات التكاملية بين البلدين.

5-تفعيل القطاعات غير النفطية.. الرصيد القائم للاستثمار الأجنبي المباشر يذهب منه حوالي الثلثين (أكثر من 66%) لصالح القطاع النفطي بالنسبة لوضع اقتصاد السلطنة، وهذا طبيعي؛ نظرا لهيمنة وسيطرة هذا القطاع حتى من ناحية تكوين قيمة القطاعات غير النفطية عدا أن عائداته هي الممول الرئيسي للتنمية. إذًا ما نحتاجه من الـFDI فعليًا لابُد وأن يعزز قيمة القطاعات غير النفطية (سياحة، لوجستيات، زراعة وقطاع سمكي، طاقة متجددة، صناعات تحويلية، تعدين...إلخ). والسبيل إلى ذلك يحتاج إلى استخدام الميزات الممنوحة بشكل سخي، واعتماد خطط تسويقية لزيادة جاذبية تلك القطاعات، وتخفيض حصة الاستثمار الحكومي لصالح المستثمر الأجنبي في تلك القطاعات، وتفعيل صيغ الشراكة المبتكرة وغيرها من الأدوات.

6-التركيز على الاستدامة بمعناها الواسع؛ هنا لابُد وأن نفهم سيكلوجية (نفسية) المستثمر الأجنبي، وطبيعة اتجاهاته من زاوية الاستدامة. كيف يكون ذلك؟ يتحقق ذلك عندما نحافظ على وتيرة الإجراءات والتسهيلات والتقليل من تقلبات الرسوم والضرائب، وتجنب الاتجاه صعودا في معدلاتها، كما إن مستوى جودة وأداء المؤسسات يلعب دورًا في أن يتحقق هدف الاستدامة من خلال العلاقة بين المستثمر والمشروع والبيئة التي يوجد بها.

7-تعميق أثر الاستثمار ودرجة انتشاره. ونلحظ هنا أن الاقتصاد الوطني يستطيع أن يجلب الاستثمار الأجنبي، لكن حجم الاستفادة يكون في الحدود الدنيا عندما لا يأتي ربط التكنولوجيا والخدمات والسلع التابعة لمشروعه مع مكونات الاقتصاد الوطني. أما معضلة قلة تنافسية وعدم متانة قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة قد تُعالج من خلال الخبرة والتكنولوجيا والمهارة التي يجلبها ذلك الاستثمار، إذا ما وجهت السياسات لهذا الجانب وكرست بشكل صحيح.

ختامًا.. أداة الاستثمار الأجنبي المباشر يشدد الجميع على أهميتها في التمويل والتنمية رغم أنها تبقى أداة ضمن عدة أدوات منها: الابتكار والتنويع والمهارات والتكنولوجيا، ولكنها قد تكون السبيل لتعزيز بعض تلك الأدوات إذا ما أحسن استغلالها.