عبقرية أميرة عربية

 

خالد بن الصافي الحريبي

 

من أغلى الكنوز ما كان أمام بَصرِنا ولكن تَوارى عن بصيرتنا كأحلام الكرى! هذا ما تعلمته ما أن لمحت قلادة فضيةً فخمةً مُحلاةً بالأحجار النفيسة كُتِب تحتها قلادة للسيدة سالمة بنت سعيد، وما قيمة القلادة بما شغف قلبي لمعرفة المزيد، لكن عبقرية صاحبتها السيدة سالمة بنت السلطان سعيد الكبير بن سلطان ابن الإمام أحمد بن سعيد مُؤسس الدولة البوسعيدية، وأمها جِلفدان الشركسية. 

وفي عالم اليوم الذي يُقدّر الاقتصاد البرتقالي، أو الاقتصاد الذي يُنّمي إسهامات الملكية الفكرية للمبدعين من المؤلفين والفنانين ومطوري البرمجيات والمُصممين وغيرهم، أيقنتُ أنَّه من المفيد لنا سبر أغوار إسهامات شخصياتنا المُبدعة التاريخية لإلهام أجيال الحاضر والمُستقبل. فإسهام شخصياتنا المبدعة مثل السيدة يتعدى كتابتها لـ"مذكرات أميرة عربية Memoirs of an Arabian Princess"، ويتعدى إرثها هذه القلادة المذكورة ضمن الحُلى النفيسة النادرة للحضارات الإسلامية في متحف طارق رجب في الجابرية خلال زيارتي للكويت الحبيبة منذ سنوات، إلى كونها عبقرية أسهمت في إثراء الإنسانية بفكرٍ نيرٍ عن مبدأين نحن معنيين بهما اليوم: قِصص الوفاء للإنسانية، وأهمية التفّكر واستشراف المُستقبل، فلماذا اعتبرُ السيدة سالمة عبقرية؟ ولماذا نحن معنيين بفكرها اليوم؟

عبقرية بين عالَمين

أصل "العبقري" في لغة الضاد أنَّه كلّ فائقٍ تعجب الناس من حُسنه وجودته، ولأن العرب أيام الجاهلية، وأحيانًا إلى يومنا هذا، تتعجب من أن يكون منهم من يُمكن أن يفوق إبداعه المستوى المعهود. ويعتقدون أن لكل مبدعٍ قرينًا مخفيًا عن العيون، يملؤه إبداعًا ِجنٌ في وادي عبقر. ومن هذا المعتقد العتيق يأتي جذر الكلمات العربية "جن" الذي يوحي بالخفاء مخفي ومنه جّنةٌ وجِنّةٌ ومجنون وأجن، وكذلك الجذر "عب" الذي يوحي بالامتلاء بعد الفراغ ومنه عِبء وعبّأ وتعبئة وعبلة وعبور وعبقري، حسب تقديري. وفي هذا الصدد أرى أن السيدة سالمة فاقت معاصريها كأول مؤلفة سيرة ذاتية عربية ومُسلمة وأفريقية، وأول ناشرة سيرة ذاتية في أوروبا في القرن التاسع عشر.

وُلدت السيدة سالمة في عام 1844م، ونشأت في قصر المتوني في أرخبيل زنجبار ضمن ساحل شرق إفريقيا الذي تبع الإمبراطورية العُمانية، التي استمرت خلال الفترة 1659- 1964. وكان لها 44 أخًا وأختًا، عاش منهم 36 بعد وفاة أبيهم السلطان سعيد. وأوَّل علامات نبوغها أنها بعد تلقيها التعليم الأساسي في القصر، أصّرت على تكملة تعليمها بالاعتماد على نفسها؛ بل وأصبحت في سن الخامسة عشرة أمينة سر أو سكرتيرة حزب أخيها السلطان اللاحق برغش (حكم زنجبار 1870- 1888)، وبذلك تعتبر أيضًا من أوائل المُفكرات اللاتي تولين منصب أمينة سر حزب سياسي على مستوى العالم. وشاءت الأقدار أن تُباعد الخلافات بينها وبين أخويها المتنافسين السلطان ماجد والسلطان اللاحق برغش، وأن تقارِب بين الشابة العشرينية وبين جارها الشاب التاجر الألماني بشركة هانسن رودولف هينريخ روته. وفي العام 1966، هاجرت السيدة سالمة إلى عدن على متن فرقاطة بريطانية، ومنها مع زوجها إلى بلده ألمانيا وغيرت اسمها إلى إميلي روته. وكما شاءت الأقدار مُجددًا، خَطَفت ريب المنون جنينها الأوَّل، ولاحقاً زوجها وأخيها السلطان ماجد في العام 1870. وتعايشت السيدة مع حنينٍ جارفٍ إلى وطنها الأم مع أطفالها الثلاثة؛ بين الشرق والغرب في ألمانيا وبريطانيا وبيروت بلبنان ويافا بفلسطين. ومن المُفارقات أنها بدأت حياتها الجديدة في عدن وتوفيت في مدينة جنه في ألمانيا في العام 1924، عن عمر ناهز الـ80 عامًا، وبذلك تكون آخر من توفي من أبناء السلطان سعيد.

قِصص الوفاء للإنسانية

كرّست السيدة سالمة 60 عامًا من عُمرها لسرد قصص الوفاء للإنسانية؛ مستهدفةً أطفالها أولاً، والعالم بصورة عامة، وذلك كـ"شاهدٍ من أهلها" ردًا على بعض الصور النمطية المغلوطة المرّوج لها في الغرب والعالم، وجادلت بالتي هي أحسن عن الرجل والمرأة في المجتمعات المُسلمة والعربية والإفريقية على حدٍ سواء. وقد تركت للعالم محتوىً فكريًا ثريًا في مؤلفاتها ورسائلها بلغتيها الأم العربية والسواحيلية وباللغات التي تعلمتها بنفسها الألمانية والإنجليزية والتركية. 

فعلى سبيل المثال، وصفت بموضوعيةٍ، وبتفاصيل دقيقة الأدوار المتنوعة للأم والزوجة والبنت في غرس القيم الإنسانية في مُجتمعاتنا؛ من دور السيدة عزة بنت سيف ابن الإمام أحمد بن سعيد زوجة السلطان سعيد إلى "التعليم المهني" والفروسية للبنات كل صباح، وفي نفس الوقت بيّنت دور "البرزة" في تعزيز التواصل وهوية ورؤية مجتمعاتنا سابقًا. كما انتقدت النظرة القاصرة لحقوق الإنسان في الغرب ورفضه لتحمل مسؤولية تنفيذ خطة واضحة لبناء عيش كريمٍ مستدام، وعمل لائق للمجتمعات التي غزاها ونَهَب ثرواتها لقرون؛ بل وتجرأت على انتقاد بعض مُمارسات حكومات بريطانيا وألمانيا التي نادت- أحيانًا ظاهريًا فقط- بالإنسانية والتحرير من الاستعباد، بينما كانت دوافعها مادية بحتة. وجدير بالذكر أن من أبرز آثار غرسها للمبادئ الإنسانية في أبنائها، أنَّ ابنها السيد رودولف- سعيد كان من أوائل من احتج على عنصرية الحكومة الألمانية النازية، وتنازل عن جنسيته الألمانية عام 1934 احتجاجًا على عدوانية هتلر التي أججت الحرب العالمية الثانية بعدها بسنوات. وصدق حدس السيدة؛ إذ حل الاتّجار بالبشر والهجرة محل الاستعباد لعقود، وما زال الكثير من ثروات المجتمعات الأفريقية في خزائن شركات تتبع الدول الاستعمارية سابقًا.

التفّكر واستشراف المستقبل

لم تكن السيدة سالمة أميرةً شابة وابنة أحد أهم حُكام العالم في القرن التاسع عشر هاجرت من وطنها فحسب؛ بل مفكرةً عالميةً عاصرت 6 من إخوتها سلاطين زنجبار، وعمةً أو جدةً لعدد من السلاطين الآخرين الذين ساهموا في نقل ساحل شرق أفريقيا وأوطانهم إلى العصر الحديث. كما استشارتها أهم القوى العظمى في ذاك الوقت بريطانيا وألمانيا. وفي ألمانيا استشارها أحد أدهى السياسيين في العالم عبر التاريخ في الدبلوماسية الاقتصادية، وهو موّحد الإمبراطورية الألمانية المستشار أوتو فون بِسمارك. وهنا على سبيل المثال تتجلى عبقريتها في التفكر واستشراف المُستقبل والشؤون الدولية، فحال ألمانيا حين وصول السيدة إليها عام 1867 كان كحال عالمنا اليوم، وبالذات كحال مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تُعاني من آثار الأوبئة والصراعات والكساد الاقتصادي. ولكنها تفكرت واستشرفت أن ألمانيا تُطبق الخطوات التعليمية والاقتصادية المستشرفة للمستقبل. فالمستشار بِسمارك ركز على تنمية هويةٍ مُلهمة والاستثمار في التعليم والصناعات الصغيرة والمتوسطة ذات القيمة المحلية المُضافة، وفضّلها على التجارة الحرة رغم الانتقادات. وصدق حدس السيدة؛ إذ خلال 20 عامًا توحّدت رؤية وهوية ألمانيا وتجني ثمار ذلك إلى يومنا هذا كأقوى اقتصاد مبني على التكنولوجيا الصناعية في العالم، وما الأمثلة كدواء "فايزر" عنَّا ببعيد.

كُرسي السيدة سالمة للاقتصاد البرتقالي برعاية المتحف الوطني

كان بمقدور السيدة سالمة أن تسعى للغِنى بعد هجرتها لأوروبا، وأن تغض الطرف عن زيف بعض مبادئ الإمبراطوريات الاستعمارية ألمانيا وبريطانيا، ولكنها آثرت بعد 80 حولًا أن تنتقدها بموضوعية، وأن تترك لأولادها وللإنسانية جمعاء عِلمًا ننتفع به إلى يومنا هذا. وفي هذا الصدد، التمسُ من مولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظم- أيده الله- الراعي الفخري للمتحف الوطني، أحد أهم معالم وصروح الثقافة والقوة الناعمة والاقتصاد البرتقالي العربية أن يثري المتحف العالم بكرسي السيدة سالمة لصناعة محتوى "يُرقمن" السير الذاتية يُخاطبنا والعالم ويحتفي بإسهاماتها الأدبية والعلمية في التقريب بين الشرق والغرب؛ وذلك بالتعاون مع جهود الاقتصاد الرقمي، والابتكار لوزارتي النقل والاتصالات وتقنية المعلومات ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار. على أن يُركز الكرسي على الشراكة مع القطاع الخاص في الاستثمار الاجتماعي، والجريء في صناعة محتوى وقيمة محلية مضافة عبر مفكرينا وشركاتنا الناشئة وشبابنا المبدعين. وتهدف هذه الشراكة لرعاية 3 برامج يُبدع فيها مفكرونا والشركات الناشئة والشباب محتوىً مقروءًا ومرئيًا ومسموعًا "يُرقمن" السير الذاتية للشخصيات المُلهمة التي أسهمت في تقدم الإنسانية منذ العصور القديمة ويشمل عهد النهضة المُتجددة.

لقد عاشت السيدة سالمة رحمها الله حياة بسيطة، وهي كنزٌ لا يُقدر بثمن، ينفع الناس ويبقى في الأرض. ولعلَّ أعمق إرثها إلهامًا هما آخر رسالتين تركتهما لنا؛ كيسٌ رملي من تراب أرضنا الذي منه خُلِقنا وإليه نعود، وعبارةٌ على شاهد قبرها تقول: "مخلصٌ من أعماق قلبه من يُحب وطنه مِثلكِ".