أ.د. حيدر أحمد اللواتي
قسم الكيمياء، كلية العلوم
واجهت المُجتمعات البشرية إثر انتشار وباء كوفيد-19 تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة، وبرز ذلك واضحًا للجميع، لكن هذا الوباء كشف عن تحديات أخرى يُمكننا أن نعرفها بتحديات ثقافية، فلقد أثار كوفيد-19 لغطًا واضحًا في مجتمعاتنا الإسلامية حول أمور عديدة ترتبط بثقافتنا الإسلامية كتلك المرتبطة بعلاقة الدعاء وارتباطه بالحدث الطبيعي، كما كشفت أيضًا عن اختلاف في وجهات النَّظر حول دور المعصية وأثرها في كشف هذا الوباء.
لكننا في هذا المقال نريد أن نُسلط الضوء على موضوع آخر أثير وبشكل واسع في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو أهمية الرجوع إلى المختص في استقاء المعلومات وأهمية دوره في اتخاذ القرارات المرتبطة بالوباء. وقد أثير هذا اللغط وبشكل خاص بعد أن شنَّ البعض حملات مناوئة ضد اللقاحات في مختلف دول العالم وشكك في جدواها، وكانت من ضمن أكثر الردود التي تم استخدامها لمواجهة هذه الحملات المشككة هو الدعوة للرجوع إلى المختص، وذلك كونه الأعلم والأقدر على التشخيص، لكن هذا الرد كان يواجه بأنَّ هناك من أهل الاختصاص من يُشكك في جدوى هذه اللقاحات ويدعو إلى تجنبها وهم أطباء وبعضهم له باع طويل في الطب، وهنا طرح السؤال نفسه من هو المختص الذي ندعو للرجوع إليه في شأن اللقاحات؟
هل هو الطبيب المتخصص في طب الأسرة مثلاً أم الطبيب المتخصص في أمراض القلب؟ أم أنه الطبيب المتخصص بأمراض الجهاز التنفسي؟
بل ربما يذهب البعض إلى أن هؤلاء ليسوا من ذوي الاختصاص والمتخصص هو العالم الذي درس علم الفيروسات وتخصص فيه وربما يقول آخرون إنَّ المتخصص هو من تخصص في الكيمياء الحيوية؛ إذ هو الأقدر على فهم دور هذه اللقاحات وتأثيرها على الخلايا الحية.
وهكذا نجد أنَّ تحديد المتخصص الذي يحق له التحدث عن موضوع اللقاحات غدا أمرًا صعبًا، والسبب في ذلك أنَّ العلوم غدت واسعة جدًا وغاية في العمق ولم يعد ممكناً الإلمام بها لسعتها فأصبح التخصص العلمي عميقاً ولكنه غاية في الضيق في الوقت نفسه، ومن هنا فإنَّ الالتزام الحرفي بمقولة إنَّ علينا الرجوع إلى المختص للحديث وإبداء رأيه في اللقاحات سيوصلنا الى نتيجة ألا أحد يسمح له بالتحدث فيها؛ بل يُمكننا تعميم ذلك فنقول إنَّ في عصرنا الحالي لا يحق لأحد منِّا أن يتحدث في أي موضوع عام لأنَّ "الخباز" في المثل الشائع "اعط الخبز لخبازه" لم يعد فردًا واحدًا؛ بل مجموعة من الأفراد.. فالمادة الخام للخبز (الطحين) يتم تصنيعها في مصانع وتلك المصانع يقوم المستثمر بالاستثمار فيها وله نصيب وافر من الفهم في آلية صناعة الخبز، كما إن للمهندس الذي يقوم بإعداد الأجهزة اللازمة لإعداد الطحين دورًا مهمًا، وعليه أن يقوم بإعداد الأجهزة بطريقة تنتج طحينًا مناسبًا للخبز، ثم يأتي الفنيون بمختلف تخصصاتهم ليتحققوا من جودة الطحين وملاءمته لإعداد الخبز، وهكذا ينتقل الأمر بين أيد مختلفة ليصل إلى الخباز الذي يقوم بإعداده في صورته النهائية. كل هؤلاء أصبحوا مشاركين في إعداد الخبز فلم يعد الخباز فردا واحدا بل غدا مجموعة متكاملة من الخبراء كل يتخصص في زاوية من الزوايا المتعلقة بالخبز، فلنا أن نتساءل من منهم يملك الحق الحصري في التَّحدث عن الخبز؟
يبدو أن لا أحد منهم، فجميع هؤلاء يمكننا أن نستعين بهم ونتحدث معهم كل في جهة معينة وزاوية ضيقة لكي يدلي برأيه فيها، ولكن القرار النهائي لا يملكه أي أحد منهم.
إنَّ من يحق له اتخاذ القرار وإصدار الحكم هي الهيئات العلمية والمنظمات الصحية التي تضم كل هؤلاء، تجمع علومهم وتصهرها معًا لتخرِج لنا رأيًا علميًا يقترب إلى الصحة أكثر من غيره، وهناك متحدث إعلامي يقوم بنشر ما توصلت إليه هذه الجهات العلمية.
ولعل الأمر يتضح بصورة أفضل عندما نتابع ما يحدث في بعض الدول المتقدمة فهيئة الغذاء والدواء هي جهة الاختصاص في الولايات المتحدة في كل ما يتعلق باللقاحات كما أن هناك جهات شبيهة لها في أوروبا وبريطانيا وغيرها من الدول.
لقد ولَّى زمن مقولة "اعط الخبز للخباز" واستبدلت بـ "اعط الخبز للمخبز" إذ لم يعد الخباز إلا عنصرًا في مجموعة كبيرة تعمل معًا لتنتج لنا خبزًا، ولذا نقول إنَّ الجهات العلمية المختصة هي من يحق لها اتخاذ القرارات في هذه الحالات فهي المرجعية التي علينا الرجوع لها.