د. عبدالله باحجاج
رسم معالي الدكتور محاد بن سعيد باعوين وزير العمل، ملمحًا من ملامح منقوصة لثقافة عمل جديدة في البلاد، يُمكن وصفها بأنَّها غير مسبوقة، وغير مُتوقعة أيضًا، ومما يُؤخذ عليها أنها جاءت منفعلة باتجاه الباحثين عن عمل، ربما كون الهاجس الوطني الآن منشغلًا بقضية توفير فرص العمل؛ لذلك.. جاءت جزئية ومُحددة جدًا، ونحت نحو التعريف بالباحث الجاد دون غيره فقط، في سياق مُنفصل عن حقوقه المُترتبة على هذه الجدية؛ وذلك عندما قال معاليه حرفيًا: "الثقافة الحقيقية للباحث عن عمل الجاد هي البحث عن أي فرصة لاستغلالها؛ سواء عقود مؤقتة أو نظام الساعات لتجميع الخبرات".
صحيح أن مرحلتنا الوطنية الجديدة، تحتاج لثقافة عمل جديدة، ومكتوبة، شاملة، ومُحصنة بتشريعات تمنع الاستغلال والابتزاز- كقضية المحاضرين من خلال العقود المؤقتة- وتصنع الطمأنينة والأمان في فرص العقود المُؤقتة، ونظام الساعات، ولو توقعنا أن ينفذ هذا التنظير الجزئي من جانب واحد، فإننا بذلك نكون حالمين، وبعيدين عن معرفة الواقع وتركيباته السيكولوجية، وتراكمات ممارساته الصحيحة والخاطئة معًا؛ لأننا لا نتصور ببساطة أن تكون ذهنية شبابنا قد انفتحت قهرًا تحت ضغوط الحاجة لفرصة العمل، وبالتالي نتوقع أن يقبل الباحث فرصةَ العملِ لو بساعة أو بساعات معدودة، أو يقبلها اقتناعًا.
لذلك تنظير معاليه، ينبغي أن يكون ضمن منظومة ثقافة عمل جديدة تشمل الحقوق والواجبات، وتحدد القيم والمبادئ الجديدة؛ لكي تتناغم مع إعادة بناء اقتصادنا الجديد، ودخول البلاد مستثمرين جُدد ومن جنسيات مختلفة. وهنا نتساءل: هل العقود المؤقتة فيها من الضمانات القانونية والحقوقية التي تمنح الطمأنينة والأمان لجيل الوطن؟ فكيف بنظام الساعات؟!
لم يتأسس في بلادنا حتى الآن، قطاع خاص يعتد بمسيرة تجميع الخبرات، وتقدير قيمتها بالمال والمنصب بصورة مجردة، كما إننا بعيدين كُل البعد عن استقطاب أصحاب الخبرات في القطاع الحكومي.. لذلك- نُكرر- لابُد أولًا من صياغة منظومة ثقافية كاملة للعمل، تشتغل عليها ورش عمل ونقاشات إعلامية وندوات ومُحاضرات، حتى تتأسس هذه الثقافة في ذهنية شبابنا الحالي، ومن ثم تحتاج الديمومة لغرسها- أي الثقافة- في التأطيرات التعليمية والتربوية حتى تصبح مُمارسة ونهج حياة.
هذا لأن ذهنية جيلنا، قد تأسست على مجموعة ممارسات وخلفيات متعددة، فيها من الجدية، ويجسدها كثيرون، وفيها من الاتكالية والاعتمادية، ويجسدها آخرون، فلا يمكن بين ليلة وضحاها أن تنقلها فجأة بتنظير هو أقرب للتعريف بالباحث الجاد عن وصفه بثقافة عمل.
ومن كل تلكم الاعتبارات، لا يُمكن اعتبار من يرفض العقود المؤقتة أو العمل بنظام الساعات في ظل أوضاعهما القانونية الحالية، وموقف شركات الاستغلال منها، على أنَّه يخرج من تصنيف الباحث الجاد، وقد استوقفنا كثيرًا تلويح معاليه بنظام ساعات العمل، فهو يؤشر إلى أنَّ مرحلتنا الجديد ستصطبغ بخيارات فرص العمل المُؤقتة وبنظام ساعة عمل، وهذه كبرى التحولات غير الإيجابية إذا ما صدقت رؤيتنا الاستشرافية، وعليها مجموعة حسابات وطنية تتعلق بمدى اختلالها بالتوازن الطبيعي لمرتبات الجيل الجديد، وهذا موضوع مقبل ومستقل.
التلويح الآن بنظام ساعات العمل، أعاد إلى الذهن مجددًا أول مقال كتبته في مسيرتي الصحفية، بعنوان: "الأبعاد الاجتماعية في التجربة الأولى للخصخصة العُمانية"، عندما كان شبابنا ينتظرون ساعة عمل خارج منشأة حكومية مخصخصة، وعندما تنتهي الساعة يرجعونهم للخارج في الشمس، وتساءلنا في حينها، لو كانت هذه من أبرز النتائج الاجتماعية للخصخصة، فلا مرحبًا بها!
لذلك نرى أنَّ الدواعي تحتم أولًا، صياغة الضمانات القانونية والحقوقية للأعمال غير الدائمة، ويكون فيها مواد صارمة تجرم تجربة شركات التوظيف التي تقاسم مرتبات المواطنين ودونها، فمثل هذه الدعوات لن تنفذ للقناعات، والتنظير- ورغم أنه تفكير بصوت مرتفع، ويمكن أن يتطور لصياغة ثقافة عمل جديدة- لكنه لن يستقيم مع استمرار شركات التوظيف التي أضرت بمرتبات المواطنين، ويُسكت عنها "فعلًا وقولًا"، رغم "الترندات" (التعليقات الأكثر تداولًا) على موقع تويتر، والمقالات التي كُتبت وتطالب بوقف هذه الشركات.. فلنحل مثل هذه الإشكاليات أولًا، ونعتبرها رسالة الجدية وإعادة بنا وتطوير الواقع، عندها سنكسب الشباب. أما بقاء مثل تلكم الاختلالات قائمة، والتنظير فوقها بما يكرّس اختلالاتها، فهذا لن يدفع بنا إلى المستقبل الآمن.