لا تزد الطين بِلَّة

 

د.حميد بن مهنا المعمري

halmamaree@gmail.com

 

عند انتهاء مراسم المدرسة في موعدها المتعارف عليه يزيد أسبوع أو ينقص، وقدوم الإجازة الصيفية بوعودها وأمانيها المُنتظرة بلهفة والتي يُمكن تنفيذ بعضها، والكثير منها يتبخر بفعل أشعة الشمس الحارقة، ومع بداية الحرب المرتقبة التي تبدأ بها الشمس بإرسال قوّاتها الصفراء الفتّاكة، إلى كوكبنا البريء قبل نزول الإنسان فيه {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}.

تلك الاستفزازات المُتكررة من قبل الشمس تجاه الأرض والتي تبدأ ببزوغ الفجر الصادق، حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم يستمر ويتم الاقتتال إلى الليل بلا رحمة ولا هوادة، ويكون من نتيجة هذه الحرب الطاحنة وضراوتها وشدة بأسها، أن تأكل الأخضر واليابس، ويتبخر ماء البحار والأنهار والمحيطات، وتنضج ثمار النخيل قبل موعدها، وتتداخل مواقيتها، كلٌّ منها تريد أن تكون هي الأسبق، حتى اشتكت نخلة (النغال) من نخلة (الخلاص)، عند (الزَّبَد والهلالي) من هذا السباق الحميم الذي في العادة تتميز به نخلة النغال ويستبشر بنو الإنسان برطبها الجَنِيّ قبل غيرها بعد انقطاع دام تسعة أشهر، لكنّ الأرض وسط هذه الفوضى التي تخلفها الحرب عادة على أرض الواقع ويكتوي بلظاها الجميع، تحاول جاهدة أن تكسب المعركة لصالحها متدرعة بالصبر الجميل الذي يحوّل الخسائر إلى مكاسب على أرض الميدان، فتجعل من تبخر الماء درعاً واقياً لها من لهيب الشمس بالسحاب المُسَخَر بين السماء والأرض ينهمر غيثا، ويجري على ظهرها وفي أوردتها سعادة وأُنْسا؛ ليستعيد كوكبنا أنفاسه، إلى جانب ذلك كله أو بعضه تحويل تلك الطاقة الملتهبة إلى طاقة كهربائية تُبرِّد على سكان الكوكب البريء، وهي بهذا أثبتت أنها استطاعت بفعل تلك الاستفزازات المتكررة أن تُحوّل المصاعب إلى مكاسب، والمحن المتتالية إلى منح متوالية، وهذا كله أو في بعض معانيه مُؤْذِنٌ بصيفٍ شديد الحرارة على غير العادة، منبعثة تلك الحرارة في العادة من ذلك الاقتتال اليومي الشرس الذي يبدأ بقدوم الطرف الأكبر والأقوى في المعادلة الحربية صباحًا وينتهي باستسلام الشمس بذهابها مساء، مع توعّدها بالقدوم تارة أُخرى كلّ صباح، وإرسال القمر ليلاً ليتجسس على الأرض بوجهه الجميل والبريء في شكله وضوئه، ويكون كاشفًا عن نقاط الضعف ومكامن القوة.

لكن مازاد الطين بِلة -بكسر الباء- في هذا الصيف الاستثنائي، وزاد من شدة احتراقه، تلك الحرارة المنبعثة من الأجهزة الذكية اللوحية (الهواتف، والآيبادات) التي تحرق الفضيلة، وتمزّق الدين، وتمرّغ بالأخلاق في وحل الرذيلة، وتسكب الزيت على نار العفّة وتأكلها، ويصبح الهاتف مصحف أبنائنا الذي لا يُفارقهم لحظة، بل ينام بجنبهم قريباً من رأسهم حتى لا تفوتهم رسالة شاردة ولا واردة إلا ولها بالمرصاد، فأصبحت في أيادي وجيوب أبنائنا الطلبة، يحملونها بعد أن كانوا يحلمون بها، بل أصبحوا يحملونها كما يحمل الذراع اليد بأصابعه الخمس السبابة والوسطى وأخواتها لا يفترقان أبدا، وقد حصلوا عليها بحيلة ما يُسمى بالتعليم الإلكتروني أو التعليم عن بعد أو التعليم المدمج إلى غيرها من مُسميات وإن اختلفت، لكنها تحمل المضمون أو المغزى أو الهدف نفسه من إيجادها كبدائل آمنة في ظل جائحة كورونا، وهو ما يعني قبول التحدي رغم الظروف الراهنة الصعبة لحصول الطلبة  على جُرعة مناسبة من التعليم.

فعندما أجد طفلا صغيرا يحمل هاتفا ذكيا، وولي أمره غبيّا عن مصلحة ابنه، أقول له: لاتزد الطين بلة! وحينما أشاهد مجموعة أطفال تراكموا فوق بعضهم البعض كأنهم كومة، يتنفسون من أنف واحدة، وينظرون بعينين ولسانٍ وشفتين أقول لآبائهم: لا تزيدوا الطين بلة!

وعندما أُشاهد الأبناء أمام الدكاكين وفي الحارات، وعلى الطرقات تجمعوا (للببجي)، ومشاهدة المقاطع الفاضحة والمُخلّة بالآداب والأذان يعلو صوته ولا مُجيب، أقول لأولياء أمورهم: لاتزيدوا الطين بلة! وارحموا ضعف أبنائكم، لأنهم في ضعفهم أشبه بالطين المبلول، فكيف لو زدته ماء؟! ولا تُلقوا بهم إلى التهلكة، وأحسنوا إليهم، بسحب هذه الهواتف والأجهزة التي هي سبب ضياعهم وتصدّع أخلاقهم، وتفشي الرذيلة بينهم، وتجريدهم من كل فضيلة، وحينها نعضّ على أصابع الندم، ولات ساعة مندم، ولا يُجدي حينها قولنا: لا تزِد الطين بلة!