د. بدر الشيدي
ترسم رؤية "عُمان 2040" صورة جميلة وبرَّاقة لما ستؤول إليه السلطنة بعد عقدين من الآن، ويخالج أبناء عُمان مزيج من الأمل والفخر مشوباً بالترقب والانتظار لرؤية تلك الصورة المتخيلة والموعودة للوصول إلى مصاف الدول المتطورة، كما تطمح الرؤية من خلال محاورها الثلاثة: الإنسان والمجتمع- الاقتصاد والتنمية- والحوكمة والأداء المؤسسي، تنطلق فيها الرؤية من ثوابت راسخة وهي مزيج من "تاريخ ضارب في الجذور، حضارة مُمتدة في العراقة، الموقع الجغرافي الفريد، حاضر نهضة مباركة، سمت رفيع، إرادة شباب واعد".
وقد بنيت الرُّؤية على العديد من الأولويات الوطنية والأهداف الطموحة التي تروم تحقيقها من خلال تبني استراتيجيات مبنية على مؤشرات ومقايس عالمية.
وتميزت الرؤية بالنهج التشاركي الذي جاء بتوجيهات المغفور له جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه حيث هيئت كل السبل لمشاركة كل فيئات المجتمع في بلورة الرؤية ومناقشة الأفكار المطروحة وتبادل الآراء وإيجاد حلول مجتمعي حولها وصولا إلى صياغة النتائج التي سترسم مستقبلا مزدهرا لعُمان، كما جاء في الرؤية. فقد عقدت ورش عمل في كافة محافظات السلطنة وملتقيات لاستشراف المستقبل والمختبرات الافتراضية لضمان مشاركة أكبر عدد من المواطنين في صياغة أفكار الرؤية.
بقدر ما تثير تلك الأولويات والاهداف الاعجاب والأمل، بقدر ما تثير بعض الأسئلة التي تتطلب الإجابة عليها لتكون رافدا قويا تعين الرؤية للوصول إلى مبتغاها.
ولا شك أن الإرادة الصادقة والنوايا الطيبة والصلبة هي التي ستدفع بالتغيير المنشود إلى الأمام، تلك الإرادة التي لن يتأتى مفعولها إلا من خلال اتخاذ خطوات أقل ما يمكن وصفها بالجريئة والشجاعة وقد تكون مؤلمة في بعض الأحيان، يتمثل ذلك في ضرورة البرهنة على تلك الإرادة وإظهار السلطة بأنها جادة في تنفيذ تلك الرؤية والبرهنة للمجتمع بأنها عازمة على اتخاذ كل الخطوات التي تؤدي بالارتقاء بعُمان إلى مصاف الدول المتطورة كما عبرت عنها الوثيقة.
إن بناء عُمان المنتظرة والموعودة قد يتطلب مد جسور من الثقة بين المواطن والحكومة، وهدم الكثير من المسلمات القائمة التي باتت لا تستجيب للتطلعات المستقبل، وقد يتطلب الأمر انقطاع عن بعض الماضي أو تحليله وأخذ منه السمين الذي ينفع الناس وتنقيته وإزالة الغث منه وإقامة على أنقاضه حاضر مزدهر نقي مبني على العدالة والمساواة وسيادة القانون، وخلق مواطنة حقيقة وصالحة وقيام مؤسسات مجتمع مدني وقوى ناعمة يتناغم مع السلطة ،وترسيخ نظام فصل بين السلطات الثلاث وكذلك وجود رافعة إعلامية قوية متطورة تواكب الرؤية في مشوارها وقادرة على ابراز الوطن بشكل حديث متطور ومتجدد.
وخطوة الشروع يجب أن ترافقها التحلل من تلك الأسئلة التي تثقل الكاهل وتعرقل الانطلاق، تلك الأسئلة التي لا تخفى على أحد وباتت تطرح علانية بكل وضوح، وقد تصل في بعض الأحيان إلى الدهشة والاستغراب، لكن الإجابة عنها ظلت معلقة لسنوات طويلة ،على الرغم ما تملكه الدولة من وسائل كفيلة بالتصدي لتلك الأسئلة.
أول تلك الأسئلة هي الإنسان، الذي يجب النظر إليه على أنه مركز التنمية ومحورها وهو القادر على تحقيق الأهداف المرجوة في حال تم تأهيله والارتقاء به ولا يتأتى ذلك فقط برفع مستواه المادي والاقتصادي، لكن أيضا بتعزيز كرامته الإنسانية واحترام حقوقه السياسية والاجتماعية للوصول به إلى إنسان مستقر اقتصاديا ونفسيا واجتماعيا مؤسسا على العلم والفكر والتحضر والثقافة.
ثاني الأسئلة تدور حول حياة الرفاهية والمواطنة والهوية التي يجب أن يفتخر بها ويحافظ عليها حسب ما تعلنه الرؤية، لنتساءل: أي مواطنة وهوية التي تدعو إلى الاعتزاز بها؟ ونقول إن الوطنية والهوية من الحقوق المكتسبة وشعور الفرد بأنه ينتمي إلي هذه الأرض ويتمتع بخيراتها وأنه فرد وعضو له كامل العضوية في هذه الأرض، وفي هذه المؤسسة الكبيرة التي هي الدولة، وأنه صاحب حق، ليس للدولة من فعل عليه إلا تنظيم هذه الحقوق والواجبات التي تترتب عليه، لذلك حتى تشعر بأنك مواطن يجب أن تحظى بممارستها أولا، فحقك في العيش الكريم وحقك في حرية الرأي والمشاركة في صنع مستقبل وطنك، وحق التنقل وحق التملك كلها حقوقك لكونك ببساطة تنتمي لهذه الأرض.
كل ذلك يتأتى بالطبع من خلال تعزيز مفهوم المواطنة، وهي المفتاح الحقيقي لتحقيق الاعتزاز بالهوية والمحافظة على المكتسبات والاعتزاز بالتراث وغيرها. والمواطنة الحقيقية هي الهدف المنشود وإذا غابت أو تضعضع مفهومها واعتراه بعض الغموض والضبابية قد يؤدي مباشرة إلى فقدان ذلك الاعتزاز المنشود. وعلى الدولة أن تسعى جاهدة إلى تعزيز مفهوم المواطنة وتنميتها بشكل ملموس لتكون دافعا قويا للاعتزاز والتفاخر بها.
إن الجيل الحالي والاجيال القادمة، لا تعنيها من الوطنية والهوية والتراث وغيرها من المفاهيم، إلا بقدر ما تستطيع العيش والرفاهية وتلبية شروط العيش الكريم. ولا عجب إن قلنا إن الحياة وشغفها ورفاهيتها هي ما تسعى الأجيال القادمة إليه، وهي مقدمة لديهم عن الانتماء للوطن، حتى مفهوم الوطن تغير ولم يبقى كما كان هو ذلك المقدس الذي يضحى من أجله بالمال والنفس والدفاع عنه بشتى الوسائل.
وطنك لم يبقَ ذلك المكان الذي ولدت فيه وأباءك وأجدادك، وطنك هو الذي يستطيع أن يمنحك الحياة الكريمة والشريفة، وتشعر فيه بعزتك وإنسانيتك، لا يسلب حقك ولا يمتهنك. ذلك الوطن الحقيقي الذي يفتخر به ويعتز به، وكلنا رأينا الكثير من الجاليات الأجنبية التي تعيش في الغرب كيف تندمج في تلك المجتمعات وتدافع عنها وأكثر انتماء لها من وطنه الأم، فقط لمجرد أنه تشعر بأن كرامته مصانه وحقوقه محفوظة ولا يتعرض للظلم والاهانة، يشعر بأنه إنسان، هكذا هي المعادلة.
أما الوطن الذي ولدت وترعرعت فيه ولا يحترم حقوقك ويميز بينك وبين الآخر ولا تحصل على حقوقك فيه، وتشعر بأن الدولة لا يهمها شيء وفوق ذلك تطالب أن تكون وطنياً معتز بهويتك وثقافتك، لم يعد قائمًا؛ فالجيل الجديد لا يفهم هذه المعادلات، ويجب مخاطبة الأجيال القادمة بلغة يفهمها ويستطيع التناغم معها، وأول تلك اللغة هي الشعور بالمواطنة الحقيقية، الحقوق وحرية الرأي وعدم التفريق والتمييز.
سؤال آخر يشغل بال المجتمع، وهو الفساد ومدى جدية الدولة في حاربته. ولن يتأتى ذلك إلا بالاعتراف به وتعريفه وتعريته وحدود مقاومته وضرب بيد من حديد لكل من يمس المال العام. وليس ذلك عيب أو مذمة؛ بل هو ضريبة تدفعها الدول نتيجة تطور الحياة الاقتصادية والمال وتشابك المصالح، وهو عملة دوليه تتقاسمه كل دول العالم.
لكن يبقى الاختلاف في الاعتراف به ومحاربته بشتى أنواع الطرق، وأن لا يترك هكذا حتى لا يتحول بمرور الوقت إلى سرطان يفسد كل شيء ويقتل الحياة ويثبط العزائم، ومردود جسيم وخطير على مسيرة التنمية والشعور بالإحباط وعدم المسؤولية واللامبالاة لأي شيء يصدر من الدولة. لذلك من المهم جدا سيادة الشفافية في القضايا المطروحة والمعاملات وغيرها، ووجود مؤسسات رقابية وتشريعية قادرة على محاسبة المسؤول ومساءلته وبيان تقصيره، كما هي قادرة على محاسبة المواطن البسيط، يتطلب طمأنة المجتمع بأن إنفاذ القانون يجب أن تطال الجميع ولا يستثنى أحدا من ذلك.
الانطلاق نحو أفق الرؤية يتطلب أيضا وجود عوامل الاستقرار اقتصادي واجتماعي، ويتحقق ذلك من خلال مجتمع متماسك، وقد تكون وجود منظمات مجتمع مدني قوية وتعزيز استقلاليتها إحدى إنجازاته لتكون دافعا للمجتمع ومحافظا على إنجازات الوطن والمواطن، إن فسح المجال للمؤهلين للمشاركة في اتخاذ القرار، وسيادة مبدأ الكفاءة والإخلاص والنزاهة في اختيار المسؤولين ومحاسبتهم عن أي تقصير تجاه الوطن والمجتمع سيكون رافداً قوياً للدفع بالرؤية للأمام. كذلك الابداع ليس له عمر أو جنس أو فئة، الابداع لا يكبر ولا يشيخ.
أما الحوكمة والأداء المؤسسي فهي ركيزة أخرى لقياس مؤشرات تنفيذ الرؤية، من الضرورة بمكان أن يتلمس المواطن والمستثمر التغير والنقلة الجدية في المؤسسات الإدارية وخصوصا الخدمية منها، هل العقلية ونعني هنا الموظفين المقدمين للخدمة هل هم جاهزين لما تطلبه المرحلة المقبلة؟ هل وجدت مكاتب لقياس الأداء اليومي وتقبل الشكاوى؟ كذلك نشرع بحوكمة مؤسسات المجتمع المدني الموجودة وفك ارتباطها مع السلطات الرسمية حتى لا تتحول بمرور الوقت إلى شبه مؤسسات رسمية لا يكون لها من اسمها شيء. من ذلك أيضا قد تتطلب المرحلة القادمة تقوية مجلس الشورى وجهوزيته وعدم إضعافه وإحراجه أمام ناخبيه.
الكل يدرك أن طريق التغير طويل وشاق، وثقافة التغيير مؤلمة وتتطلب تضحيات كثيرة، وما هو أكثر صعوبة وعناء يتمثل في خلق تلك الثقافة؛ سواء على صعيد المؤسسات أو الافراد وتهيئة الأرضية المناسبة، بما فيها خلق مؤسسات مجتمع مدني فاعل ونشط وقادر على التناغم مع ما تطلبه المرحلة المستقبلية..
إننا بإرادات صادقة ستصل عُمان إلى المصاف المتقدم الذي ينبغي لها أن تكون فيه.