"تعرف إيه عن المنطق؟!"

 

خالد بن الصافي الحريبي

 

في مشهد أضحك- وما زال يُضحك- الملايين حول العالم في مسرحية "مدرسة المشاغبين" تُصِر الأستاذة الراقية عِفّت (سهير البابلي) أن يجيب طلبتها الأشقياء عن سؤال: تعرف إيه عن المنطق؟ فانبعث أشقاهم وهو مُرسي الزناتي (المرحوم سعيد صالح) وبدأ إجابته: "أعرف أنه كويس…!"، ويختم مزهوًا بإجابته بعبارة كوميدية خالدة: "هو ده المنطق ولا مش هو؟ يا متعلمين يا بتوع المدارس!؟".

وما أشبه اليوم بالبارحة، فعلى الرغم من مرور حوالي 48 عامًا من دق هذه المسرحية الهادفة ناقوس الخطر حول أهم رسالة هادفة وهي أهمية الاستثمار في الإنسان كصانع للحياة، إلا أنَّ مجتمعاتنا ما زالت إلى يومنا هذا تُواجه تحديات في توجيه بوصلتها نحو الإجابة بصورة مرضية على التساؤل: ما هو المنطق وراء المستوى الحالي من استثمارنا في التعليم؟

الاستثمار في التعليم بين جلب المصالح ودرء المفاسد

من نافلة القول أن طلب العلم والتعلم من أهم النعم، ويُحقق لنا جلب العديد من الفوائد والمصالح؛ منها: تهذيب النفس وتنوير العقل وترويح القلب وبناء صداقات مع أصحاب العمر. والأهم من هذا حسب القاعدة الحياتية الفقهية التي تقول إنَّ "درءُ المفسَدَة أولى مِن جَلب المصلَحَة" أي أن العلم النافع هو خط الدفاع الأول ضد اليأس وآثار الأزمة، كالأزمات الصحية وجائحة كورونا (كوفيد-19) وتبعاتها الاجتماعية والاقتصادية. فبحسب دراسة لمؤسسة بِيو "Pew Charitable Trusts"، فإنَّ نيل شهادة جامعية يسهم في تحسن المستوى المعيشي (Socio-economic Progress) لذوي الدخل المحدود لدى 90% من الحالات. ومن جانب آخر، فإنَّ عدم نيل شهادة يتسبب لنا في أضرار صادمة، إن لم يتم تداركها كوقائع وحقائق حاليًا، فلن تُصلحها مستقبلاً أي خطط تقشف مالي. وحذّر البروفيسور آنجوس ديتون الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد ومؤلف كتاب "وفيات اليأس ومستقبل الرأسمالية" من أن عدد الوفيات الناتجة عن اليأس بين الشباب الذين لم ينالوا شهادة جامعية يزيد بستة أضعاف عن نفس العدد بين الذين نالوا شهادة جامعية.

أفضل الممارسات و"مشروع قانون التنافسية"

المنطق يقتضي أن يُترجم التخطيط السليم للمُستقبل إلى استثمار مستدام لبلوغ الغايات والرؤى الطموحة. فعلى سبيل المثال، تصر المنظومات العالمية المتقدمة- مثل الصين عبر "مبادرة الحزام والطريق" والاتحاد الأوروبي عبر "قانون حماية البيانات" والولايات المتحدة الأمريكية عبر مشروع "قانون التنافسية"- على تحقيق نفس أهداف رؤيتنا؛ وهي: الإسهام في خلق مُجتمع تنافسي ومبدع. ويرسم قانون التنافسية الأمريكي خارطة الطريق التي تأخذ بأسباب التقدم والتنافسية لأجيالهم الحالية والمُستقبلية، وخصص أكبر ميزانية للاستثمار في التعليم والبحث العلمي على الإطلاق؛ إذ تم تخصيص ربع تريليون دولار أمريكي (حوالي 100 مليار ريال عُماني) لتحقيق التناغم والتكامل بين  المشاريع الوطنية المتخصصة في التعليم والتدريب والتطوير والإنتاج في مجالات التقنيات الناشئة التي تعزز الاقتصاد الرقمي والقيمة المحلية المُضافة (In-Country Value- ICV). وأهم هذه المجالات تستهدف الاستثمار في شركات القطاع الخاص المتخصصة للإسهام في تحسين المستوى المعيشي صحياً وتعليميا واجتماعيا وفرص العمل والأعمال؛ عبر تطوير المنتجات والخدمات التقليدية إلى منتجات ذكية ورقمية أكثر نفعاً للإنسان بأيادٍ محلية متخصصة في تقنيات الذكاء الاصطناعي "Artificial Intelligence -AI" وأشباه الموصلات "Semiconductors" والحوسبة الكمية "Quantum Computing".

رواد تكاتف

محليًا، ولله الحمد، حبانا الله بمبادرات للاستثمار في التعليم، وقد سُررتُ بنعمة التعرّف على أكثر شبابنا إلهامًا من خريجي إحدى هذه المبادرات الوطنية خلال عملي في مجال الاستثمار الاجتماعي في إحدى شركات الطاقة. وهذه المبادرة هي برنامج "رواد تكاتف" (Takatuf Scholars)، الذي أسسته وتُتيحه للشباب ليتنافسوا على فُرَصه دوريًا، شركةُ النفط العُمانية التابعة لمجموعة أوكيو، والذي يستثمر في جسرٍ تعليمي وعملي يربط رواده من شباب عُمان باستيعاب وتطبيق مهارات وكفايات القرن الحادي والعشرين الحياتية والعملية والريادية، التي تمكنه من الإبداع والابتكار والتنافس بعد تخرجه. وعبر لقائي بحوالي 100 خريج من هذا البرنامج الطموح والمُلهم تعرفت على كفاءات وُفقت في نفع مجتمعنا بما اكتسبوه من البرنامج، ومنهم الشاب المهندس حمد الدرعي ابن سيح الحاجر بولاية بهلا، الذي يجمع بين أهم تخصصين حاليًا في الاقتصاد الرقمي وهما: الهندسة والماجستير في التحليل التجاري وعلوم البيانات. وإضافة إلى المهندس حمد وزملائه من "رواد تكاتف"، هناك المئات من الكفاءات من خريجي برامج الاستثمار في التعليم الهادفة كبرنامجي "تحويل مشاريع التخرج لشركات ناشئة- أبجريد" وبرنامج "منافع"، التابعيْن لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بالتعاون مع عدة جهات، وبرنامج "ساس لريادة الأعمال" التابع لوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات و"مُسرِّعة الابتكار البيئي" لشركة "بيئة"، وغيرها من المبادرات الواعدة التي يدعونا المنطق للاستثمار فيها بصورة أكثر تناغُماً وعُمقًا.

صُناع الحياة

أغلب الناس على دين حكوماتهم؛ تُخرجهم إما صُناعَ حياةٍ أو يأس. ولم تكن مسرحية "مدرسة المشاغبين" عملاً كوميدياً فحسب؛ بل كانت صحوةً لوطنٍ ينفض عن نفسه غُبار نكسات الزمن وجوائحه، ولهذا يتردد صدى رسالتها الخالدة ويبعث في أرواحنا بَسَمات وضحكات الأمل في صناعة حياةٍ كريمة. والدنيا كما قال الشاعر ابن زيدون: "أَنَّ الزَمانَ الَّذي ما زالَ يُضحِكُنا أُنسًا بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا". فها هي تداعيات التعافي من جائحة كوفيد-19 عِوضاً من أن تُدنينا من الاستثمار في أسباب الرقي وتحسين المعيشة، تُبعدنا شيئًا فشيئًا عن التناغم والتكامل في تطبيق رؤيتنا الطموحة التي نادت بتحسين كفاءة أداء الجهاز الإداري للدولة والاقتصاد الرقمي والاستثمار في المؤسسات الناشئة. حتى يكاد سقف توقعاتنا يتوقف عند فرصة عادلة لنا للتطعيم بلقاحٍ يقينا غوائل الجائحة!!

هذه دعوةٌ للجميع اليوم للتفكّر بمنطقية في بلدنا العزيزة الغنية ووضع موازنة أداء بأهداف مُلهمةٍ وذكية للاستثمار في كل إنسان باعتباره صانعًا للحياة الكريمة، وليس رأس مال بشري صانعًا لليأس وفق حسابات الربح والخسارة.

إن قضيتنا الأولى "يا متعلمين يا بتوع المدارس" هي الاستثمار في التعليم؛ لأن الإنسان الواعي هو صانع الحياة الكريمة.. تقول الرسالة الختامية لمسرحية "مدرسة المشاغبين" فيما معناه: "بلدنا العزيزة الغنية عايزة كل واحد يفهم القضية.. عايزين فوارس تتخرج في المدارس وتمسك المحارث وطريق السلام وتخلينا دائماً في عز، وصُناع للحياة".