د. عبدالحميد إسماعيل الانصاري **
الولاية على الغير، هي حق الولي بسلطة الانفراد بإدارة شؤون المولى عليه نيابة عنه، ويرجع أصلها إلى عرف كان يسود المجتمع العربي قبل الإسلام؛ حيث كان الولي (زوجًا، أبًا، جدًا، ابنًا، أخًا، عمًا) يفرض ولايته على الصغار والقاصرين حتى سن الرشد وعلى فاقدي العقل وفاقدي الأهلية.
لكن المجتمع العربي قبل الإسلام فرض الولاية على المرأة مدى حياتها؛ فلا تتصرف في أي شأن إلا بإذن الولي، وجاء الإسلام بتعاليمه العادلة فأشرق فجر جديد على المرأة المُسلمة، أعطاها أهليتها وشخصيتها الكاملة. جاء الكتاب الخالد يُخاطب الرجل والمرأة على حدٍ سواء (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عندالله أتقاكم) وقال جلَّ في علاه: (يا أيُّها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)، فكانت للمرأة مشاركات واسعة في الحياة الاجتماعية والسياسية: داعية ومهاجرة ومجاهدة على امتداد عصري الرسول والخلفاء الراشدين، كما وثق لذلك الباحث الجليل عبدالحليم أبوشقة رحمه الله في كتابه الموسوعي الفذ "تحرير المرأة في عصر الرسالة"؛ وهو أوثق دراسة علمية تاريخية رصينة، جامعة لأوثق المصادر من نصوص القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم، جسدت معالم شخصية المرأة المسلمة واستقلاليتها في التصرف، وحرية حركتها في المجتمع.
لكن بتطاول العهد ودخول أقوام تحمل ثقافات سلبية تجاه المرأة، تراجعت فعالية تعاليم الإسلام وعاد المُجتمع العربي إلى أعرافه وتقاليده وتأثر جمهور الفقهاء بثقافة مُجتمعاتهم، جعل وضعية المرأة في العصور اللاحقة لفجر الإسلام تتراجع.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "وقد ساء وضع المرأة في القرون الأخيرة، وفرضت عليها الأمية والتَّخلف الإنساني العام؛ بل إني أشعر بأنَّ أحكامًا قرآنية ثابتة أهملت كل الإهمالُ؛ لأنها تتصل بمصلحة المرأة منها: دية المرأة، حيث إنَّ أهل الحديث يجعلونها على النصف من دية الرجل، وهذه سوءة خلقية وفكرية مرفوضة".
المجتمع العربي أعطى الرجل حق الولاية الكاملة على المرأة، فأجاز للولي الأب حق تزويج الصغيرات، وأجاز جمهور الفقهاء "ولاية الإجبار"؛ أي حق الولي الأب تزويج ابنته البالغة بكرًا أو ثيبًا من غير رضاها فيما عدا الفقيه الكبير أبي حنيفة وبعض الفقهاء الذين اشترطوا إذنها عملًا بنص الآية الكريمة: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"، فقد أسند الفعل إليها.
لكن بماذا يُعلل الفقهاء فرض الولاية على المرأة؟
أولاً: أن الولي الأب أدرى بمصلحة ابنته منها؛ كونها تنقاد للعاطفة ولا تحكم عقلها، وهو أشفق عليها، ولايختار لها إلا الزوج الكُفء.
ثانياً: نصوص قرآنية فُهم منها حق ولاية الرجل على المرأة، لكنها معارضة بنصوص قرآنية فهم منها حق ولاية المرأة على نفسها.
ثالثاً: مرويات من السنة النبوية تُفيد حق الولاية للرجل على المرأة، وهي مرويات ظنية الدلالة والثبوت، معارضة بمرويات من السنة نفسها تؤكد حق المرأة في الولاية على نفسها، ولذلك اختلف الفقهاء في قبولها وفِي دلالتها، وذهبوا في تأويلها مذاهب شتى، ورفضها الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان جملة وتفصيلًا، فمنح المرأة البالغة حق تزويج نفسها، وحق مُباشرة العقد، فلو كانت المرويات قاطعة الدلالة والثبوت ما وسع الإمام رفضها.
رابعاً: الخلط بين مفهوم "القوامة" الممنوحة للزوج في الحياة الزوجية، ومفهوم "الولاية" في الحياة العامة؛ إذ إنَّ القوامة ثابتة قرآنيًا؛ وهي مسؤولية الزوج عن أسرته وبيته من حيث الرعاية والعناية والحماية وتأمين احتياجاتها. أما الولاية فنوع من الوصاية المفروضة على قاصر، تُشكل قيدًا على حريته الشخصية، وتمنعه من التصرف إلا بإذن الولي، وهذا إذا كان له مسوغ منطقي في حالة القصر وفاقدي العقل، فإن فرضها على المرأة البالغة العاقلة الرشيدة نوع من التمييز المُناقض لكافة المواثيق والتشريعات الحقوقية الدولية، والدستور الوطني إضافة إلى مخالفتها للقرآن الكريم.
من يتدبر القرآن يجد أنَّ المرأة تتمتع بأهلية كاملة وحرية حركة واسعة وفي الميادين كافة: ملكة وزوجة وعاملة وداعية للخير؛ بل إنَّ القرآن أثبت للمرأة ولاية كاملة كالرجل في قوله تعالى: "والمؤمنون والمُؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".
** كاتب قطري، عميد كلية الشريعة سابقًا