تحوّل الطاقة ونزع الكربون

 

خالد بن الصافي الحريبي

(شاركت في إعداد المقالة: د. لمياء حارب)

 

قد نعتبر الكهرباء خدمة مُسلمًا بها فنحن نضغط زرًا في المنزل أو المكتب فتضيء المصابيح ونشغّل الأجهزة، لكن الحقيقة هي أننا إذا استمررنا في إنتاج الطاقة بالطريقة التقليدية من الوقود الأحفوري، وهي النفط والغاز الطبيعي والفحم وغيرها، فقد تتسبب الانبعاثات الكربونية الضارة في جعل كوكبنا غير قابل للعيش لأحفادنا.

فمع بلوغ عدد سكان العالم 8 مليارات نسمة عام 2050 يُواجهنا تحدي رفع مستوى المعيشة للجميع دون الآثار السلبية للتغيّر المناخي. ويكتسب التحوّل نحو مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة أهمية خاصة في مجتمعاتنا نظراً لأنَّ قطاع الطاقة يمثل حوالي 68 -85% من دخلنا، ولكن هذا القطاع في نفس الوقت مسؤول عن حوالي 90% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الضارة في الجو. وعليه، فالحقيقة الماثلة أمامنا هي أننا في الخليج أنجزنا الكثير من مشاريع تحوّل الطاقة ونزع الكربون الطموحة خلال السنوات الماضية، إلا أنه لا تزال تلوح أمامنا في الأفق 3 سيناريوهات ذات صلة بتحوّل الطاقة. وعلينا أن نلتزم بإحداها وهو سيناريو الوصول إلى المستوى صفر من الانبعاثات الكربونية الضارة. فما هو تحوّل الطاقة ونزع الكربون؟ وما هي السيناريوهات الثلاثة؟ وما هي أنسب خارطة طريق للاستثمار في تحوّل الطاقة؟

 تحول الطاقة ونزع الكربون

مع تسارع التغير المناخي الذي نشهده مع كل إطلالة على الطبيعة حولنا خارج المنزل والمكتب، وكل نشرة أخبار وبيان أرصاد جوية تطالعنا زيادة سرعة الاحتباس الحراري، وتزداد صعوبة التنبؤ بالطقس، وهذا يؤدي تدريجياً إلى خلل في توازن أمن واستقرار الأرض ككل. ومن هنا تنبع أهمية تبنّي خطة محكمة تصل بنا معاً إلى بر أمن الطاقة والتحوّل نحو طاقة متجددة نظيفة بحلول العام 2050، وتحافظ على درجة حرارة الأرض بمستويات تتناسب مع درجات الحرارة ما قبل تأثيرات الثورة الصناعية، وتخفّف انبعاثات الاحتباس الحراري.

أما التحديات التي تواجه منطقتنا بصورة عامة للوصول لهذا الهدف فمنها عدم التخطيط السليم، وعدم تبني والاستثمار في الشركات والتقنيات الناشئة المتخصصة في تحوّل الطاقة، وتواضع الالتزام بتنفيذ خارطة الطريق الوطنية المُتبناة التي تشمل أهدافاً ذكية ومعقولة ومحددة وقابلة للقياس والتحسين (Nationally Determined Contributions - NDCs).

 السيناريوهات الثلاثة

ويرى العُلماء والمهتمون بمجال الطاقة أن تقرير شركة بي.بي. العالمية لاستشراف مستقبل الطاقة "BP energy outlook"، هو أهم تقرير يُحلل 3 سيناريوهات لنظام الطاقة العالمي.

- السيناريو الأول: هو الاستمرار في التركيز على الأسلوب التقليدي، وإنتاج الانبعاثات من مصادر الطاقة التقليدية والوقود الأحفوري وتكمّلها ببعض مشاريع الطاقة المتجددة. كما يفترض هذا السيناريو أن الإجراءات والسياسات الحكومية والتكنولوجيا وسلوكيات المجتمع ستتطور تلقائياً بصورة تسمح بالاستمرار في إنتاج الوقود الأحفوري.

- السيناريو الثاني: التحوّل المُتسارع وهو يفترض أن يتم تخفيض في إنتاج النفط والغاز والانبعاثات المصاحبة بنسبة 70% بحلول 2050.

- السيناريو الثالث: يفترض الوصول إلى مستوى صفر من الانبعاثات الكربونية والتحوّل التام من إنتاج الطاقة من النفط والغاز إلى الطاقة المتجددة النظيفة بنسبة 95% بحلول العام 2050.

وبصورة عامة، بينما تشهد التكنولوجيا والإجراءات في قطاع الطاقة تحسناً في كفاءتها، إلا أن عوامل هيكلية كالطلب المتزايد من قطاع الصناعة في الصين والولايات المتحدة الأمريكية لا يزال يحدّ من إحساسنا بنتائج ملموسة لكفاءة الطاقة.

خارطة طريق الاستثمار في تحوّل الطاقة

لا يُمكن تحقيق تغيير جذري نحو تحقيق أمن الطاقة دون أن نغيّر ما بأنفسنا ونُؤمن قولاً وعملاً بقوله تعالى "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (الأعراف: 31) صدق الله العظيم. ومن هنا تأتي أهمية تبني كفاءة وصون الطاقة (Energy Conservation & Efficiency) على المستوى الفردي عبر عدم الإسراف والاستخدام الأمثل للطاقة بصورة تحقق الأهداف المرجوة دون إفراطٍ أو تفريط. إنَّ كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة من الأعمدة الرئيسية للتحوّل نحو طاقة متجددة ونظيفة ومستدامة، والسبيل الأمثل لتخطي تحديات التغير المناخي في أقرب فرصة ممكنة باستخدام التقنيات الناشئة الآمنة التي تُمكننا من الحد من حوالي 90% من الانبعاثات الضارة.

كما إنه من المهم أن نستثمر في التحوّل نحو طاقات الأرض المتجددة، وإيقاف هدر استثماراتنا في مصادر طاقة غير متجددة وتُنتج انبعاثات ضارة. والخطوة الأهم هي تبّني سياسةٍ وخارطة طريق تحدد أهدافاً ذكية ومعقولة وقابلة للقياس للوصول إلى مستوى صفر من الانبعاثات الكربونية. وهذا ليس ضرباً من المستحيل، نظراً إلى أننا على سبيل المثال تُغذي عالمنا الطاقة الشمسية بـ3 ترليونات كيلوات في الساعة يوميا وهذا أكثر من احتياجنا بـ20 مرة. كما أن علينا أن نحث مجالس إدارة مؤسساتنا الاستثمارية ومصارفنا وصناديق تقاعدنا أن تستثمر في مشاريع الطاقة المتجددة وتخفيف الانبعاثات الكربونية الضارة. وتُعد الأمثلة التالية من أفضل الممارسات العالمية في تبني تحوّل الطاقة كجزء أصيل من هويتها الجديدة:

  • شركة أورستد الدنماركية (Orsted): وتهدف للتحوّل تماماً من استخدام الفحم ومصادر الطاقة التقليدية بحلول العام 2023، وهي اليوم من الشركات الرائدة في مشاريع طاقة الرياح والشمس والطاقة الحيوية وحلول الهيدروجين المتجدد.
  • شركة إكوينور النرويجية (Equinor): والتي تتحوّل بنجاح من شركة نفط بالكامل إلى شركة طاقة متجددة ونجحت في جذب الكفاءات الشابة والتركيز على طاقة الرياح والوصول إلى مستوى صفر من صافي انبعاثات الكربون بحلول العام 2050.
  • شركة نيست الفنلندية (Neste): والتي تتحوّل من مصفاة للنفط لمشاريع الطاقة المتجددة والاقتصاد الدائري.

إن تحوّل الطاقة من أمامنا والاستمرار في النظر للطاقة غير المتجددة من ورائنا، والحفاظ على هذه الأرض وتسخير طبيعتنا الغنّاء أمانة؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الأحزاب: 72) صدق الله العظيم. فلنحمل معاً أمانة أمن الطاقة بجدٍ ولنتخيل معاً عالماً تُغذيه طاقات الشمس والرياح والحرارة الجوفية والأمواج ولنتخذ معاً خطواتٍ عمليةٍ في أرض الواقع تضمن لنا نحن وأجيال المستقبل عيشاً كريماً ودخلاً آمناً في أرضٍ أكثر استدامة.