إعلان مانديلا

 

الحل في رأيي أن يدعو مجتمعنا إلى تبني اتفاق، أو إعلان عالمي لفرض عقوبات على أي قوى تتبنى جريمة الفصل العُنصري حسب تعريف المحكمة الجنائية الدولية، يهدف للحد من ثلاث ممارسات

خالد بن الصافي الحريبي

في هذه الأيام، لم يحضرني حدث شَهِدته ولاية صلالة بمُحافظة ظفار قبل حوالي 20 عامًا أهم من استقبال أعزَّ الرجال وأنقاهم السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه-، لأحد أهمَّ زعماء النضال الإنساني في العالم: نيلسون مانديلا الرئيس الجنوب أفريقي الأسبق -رحمه الله-.

والعِبرة اليوم من حياة مانديلا، ليس فقط أنَّه كان سجيناً لمدة 27 عاماً ومن ثم أصبح رئيساً؛ بل لأنه قاد نضالاً وتغّلب على أحد أقوى أنظمة جريمة الفصل العُنصري المدججة بالسلاح النووي في العالم، وقاد أمّته إلى بر الأمان. كما إنه أهم زعيم في العالم بيّن أنَّ مُعاداة العنصرية الصهيونية لا تعني مُعاداة السامية. وقد رأينا جميعاً اليوم حفيده الصالح يُحافظ على إرث مانديلا الطيب ويتصّدر المسيرات التي تدعو إلى السلام والإنسانية والرحمة وإلى وقف سياسات الفصل العُنصري العدوانية الصهيونية التي يُمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد إخوتنا الفلسطينيين، ورب أخٍ لك لم تلده أمك.

إنني مُؤمن بأنَّ من آثار تعافي العالم من جائحة "كوفيد-19"؛ هو أنَّ الدول العظمى ستُعاني من تزايد نِسب الفقر والسخط الشعبي للناخبين، وستعالجه بأن تفرض على دُولنا بيع مواردنا الطبيعية وعناصر الإنتاج وبياناتنا بثمن بخس دراهم معدودات لخلق فرص عمل وأعمال لناخبيها. وعليه لماذا لا نقي أنفسنا شر هذه المُمارسات القادمة لا محالة؟ ولماذا لا نتبنى اليوم إعلاناً يضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد؟ أولاً: يكبح جِماح توجهات الغرب لاستغلال بياناتنا لتغذية اقتصاده الرقمي. وثانيًا: ينتصر لإخوتنا الفلسطينيين ويحول نظريات النضال من أجل الإنسانية والسلام العادل والشامل إلى واقع، وثالثاً: يعيننا على الاستفادة المُثلى من الموارد الطبيعية وعناصر الإنتاج التي. حبانا الله بها.

لماذا إعلان مانديلا؟

وتتنافس العواصم والحواضر العالمية في تبني الاتفاقيات والإعلانات الهادفة، فهناك إعلان باريس وكوبنهاغن للمناخ، وإعلان كرايسشيرش النيوزيلندي للاستخدام الآمن للتكنولوجيا وغيرها. ونشهد اليوم حسب تقرير منظمة الصحة العالمية تأثر حوالي 200 مليون إنسان حول العالم بالفقر كنتيجة مباشرة لجائحة كوفيد-19، وعليه كلما زادت نسبة الفقر، كلما زاد التنافس في الماضي على الموارد الطبيعية الموجودة في المجتمعات الأقل قدرة في الدفاع عن نفسها، أما اليوم فالتنافس هو على البيانات التي تُغذي الاقتصاد الرقمي وشركات القوى العظمى التكنولوجية. والدليل على ما تقدّم هذا ما تشهده المجتمعات المُسلمة في الوطن العربي وميانمار والبوسنة. والحل هنا، في رأيي أن يدعو مجتمعنا إلى تبني اتفاق، أو إعلان عالمي لفرض عقوبات على أي قوى تتبنى جريمة الفصل العُنصري حسب تعريف المحكمة الجنائية الدولية، يهدف للحد من ثلاث ممارسات؛ أولاً: لأن الحرب أولها كلام؛ فالحد من الخطاب والمُمارسات الرسمية الحاطة للكرامة التي تستهدف مجموعة بعينها، وثانياً: الحد من أي تبني لأي نظام قانوني يُفّضل مجموعة على أخرى، وثالثاً: الحد من أي مُمارسة غير إنسانية، غير رسمية. ومن الضروري التعرّف على الأمثلة العالمية المتصاعدة مؤخرًا التي تدق ناقوس الخطر وتدعونا إلى عدم التواني ولو للحظة في وقاية أنفسنا من جريمة الفصل العنصري.

الولايات المتحدة الأمريكية

في يناير من هذا العام عانت أمريكا الأمريّن من ذروة التاريخ الطويل للعنصرية بعد تبّني رئيسها السابق دونالد ترامب للجماعات العنصرية المسلحة قانونياً بالسلاح والكراهية التي اقتحمت عنوةً أكثر مُؤسساتها الوطنية قدسيةً دستورياً وهو الكونجرس الأمريكي. ولتخطي هذا الخطر تبنت أمريكا قوانين لتعزيز السلم الاجتماعي داخلياً وأصبح اليوم في الكونجرس ممثلون لا يستهان بهم يمثلون تيار التقدميين (Progressives) المناهض للعنصرية المُصمم على تحقيق مكاسب أكبر في انتخابات الكونجرس النصفية المقبلة في العام 2022.

وعليه.. فإنِّه إن لم تُسارع مُجتمعاتنا لتعزيز اتساق مصالحها الوطنية مع الأولويات الداخلية الأمريكية، وتبني استراتيجية ممنهجة لتعزيز علاقاتها بالنواب التقدميين في الكونجرس الأمريكي، فسيصيبها اليوم ما يصيب الفلسطينيين من دعم أعمى من أمريكا لممارسات نظام الفصل العُنصري الصهيوني. ويكون هذا الاتساق عبر التوضيح للشركاء في أمريكا أن مجتمعاتنا ستحجب بياناتها عن أي مؤسسة أمريكية متورطة في جريمة الفصل العُنصري، ومن شأن هذا أن يوضح مبادئنا ويحد من تدهور النظرة الدونية والتعامل الحاط للكرامة التي تعامل به أمريكا مجتمعاتنا اليوم.

أوروبا

حسب تقرير لقناة "بي.بي.سي" البريطانية ارتفع التسجيل في المُنظمات العنصرية في أوروبا مع بداية جائحة كوفيد-19 ومنع الحركة بحوالي 70 ألفاً خلال شهر واحد فقط بين مارس وأبريل 2020. ولأنهم ناخبون قد يفسر لنا هذا تصريح رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون در لاين المؤيد لنظام الفصل العنصري الصهيوني. وفي ألمانيا، تلوح في الأفق خلافة المستشارة القيادية آنجيلا ميركل في شهر سبتمبر المُقبل، ولذا يتنافس المرشحون لخلافاتها على تصوير مجتمعاتنا على أنها متخلفة تمهيدًا لاستغلالها لبناء اقتصاد رقمي أقوى ويشترون ودّ نظام الفصل العُنصري الصهيوني. وهذا مُؤشر خطير نظراً للتركة العُنصرية البغيضة لألمانيا في الحرب العالمية الثانية التي خلّفت بين 50- 85 مليون قتيل حول العالم. أما فرنسا، فتُمعن حكومة الرئيس مانويل ماكرون في كلام الحق عن الروح الوطنية الفرنسية الذي يراد به باطل وهو إهانة مواطنيه المُسلمين الذين أغلبهم من شمال وغرب أفريقيا التي تزود فرنسا بفرص عمالة رخيصة وموارد طبيعية تعدينية هي الأثمن في العالم للتصنيع. ولا ننسى أنَّ تركة فرنسا الثقيلة تشمل حماس الغُزاة الفرنسيين أثناء الحروب الصليبية لدرجة أنَّ كلمة "الفرنجة" ظلت لقرون تعني شعوب الغرب. أما النمسا فيصر مستشارها الغرُ المتطرف على المُبالغة في الترصد للمسلمين في كل فرصة، وكذلك الحال في بولندا.

والواضح للعيان مع كل الأسى، أنَّه على الرغم من صداقة مجتمعاتنا "الراسخة" مع بريطانيا، إلا أنَّ حقيقة أنها أكثر الدول تقدماً في أبحاث اللقاحات وعدم بذل حكومة رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، المؤيدة للصهيونية، أي جهد صادق تجاه أصدقاء بريطانيا، يشي بأن هذه العلاقات ليست كما المتوقع.

أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض

الكثير من المُجتمعات اليوم تنشر البيانات المتعاطفة مع الفلسطينيين؛ لأنها ترى أنها مغلوب على أمرها ولا قبل لها بمواجهة مخططات القوى العظمى، ناهيك عن أن القوى العظمى توصلت لاتفاقيات تُلهي دول ذات أغلبية مُسلمة بمكاسب دنيوية مُؤقتة. فاتفقت مع إيران في فيينا بأن تحتفظ بلبنان، ومع تركيا تحتفظ فيه بسعر صرف الليرة التركية، ومع مصر تحتفظ فيه بالمعونات. وكما ترى مثل هذه القوى معنا كالأسد الجائع الذي انفرد بشريكيه الثورين البرتقالي والأسود وأقنعهما بأنَّ مصالح "المجتمع الدولي" المشتركة تحتّم عليهم التضحية بأخيهم الثالث الثور الأبيض. وبعد أن شبع الأسد انفرد بالثور البرتقالي، وأقنعه بأنَّ لونهما واحد فأجهز على الثور الأسود؛ فما كان من الثور البرتقالي إلا أن أدرك مصيره المحتوم وقال "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض". وإذا غضضنا طرفنا اليوم عن نظام الفصل العنصري الصهيوني عن أكل لمصير الإنسان الفلسطيني بتأييد من القوى العظمى، فمن يضمن أننا لن نُلاقي مصير الثور البرتقالي؟

ولوقاية أنفسنا من شرٍ قد اقترب أرى أن ندعو لكلمة سواء مع المجتمعات المؤمنة بالنضال ضد جريمة الفصل العُنصري والإعلان أنَّ أي دولة تمارسه ستُعاقب بحرمانها من الاستفادة من مواردنا الطبيعية وعناصر إنتاجنا وبياناتنا.