كنوز الحياة

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

 

"إن الحياة حَبَتْكَ كلَّ كُنوزِها"

لا يكاد يوم يمضي دون أن نسمع أونقرأ عبر وسائل الإعلام أوحسابات التواصل الاجتماعي عن تقانات أو أدوات جديدة تخدم الإنسان في مختلف جوانب حياته. ولا شك أن تلك التقانات هي من نعم الله التي أنعم بها على الإنسان وسخرها من أجله: "وسخّر لكم ما في السماوات والأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرن". وعلى بساطة بعض تلك التقانات، سواء من حيث إنتاجها أومن حيث طرق استخدامها، إلا أنه يمكن القول إنها من "كنوز الحياة" أو إنها "كنوز للحياة"، وذلك لما تُحْدثه من آثار إيجابية وتغييرات نوعية في مستوى معيشة الإنسان وطريقة حياته. ونسوق هنا بعض الأمثلة على تلك الكنوز، وما ينبغي على الدول والمجتمعات عمله لجعل الإنسان يصل اليها ويستفيد منها بأيسر الطرق وأقل التكاليف.

من التقانات الحديثة التي يمكن وصفها بأنها من "كنوز الحياة"، التطبيقات التي يتم استخدامها عن طريق الهواتف المحمولة، والتي أصبحت استعمالاتها تشمل جوانب كثيرة من جوانب حياة الإنسان، مثل الحصول على بعض المؤشرات الصحية، إلى إنجاز الأعمال التجارية وتحويل الأموال، إلى الترفيه والمرح، إلى غيرها من الضرورات والمتع وذلك إما مجاناً أو نظير مبالغ مالية زهيدة. ومن المعلوم أن إنتاج تلك التطبيقات ليس بالأمر الصعب، فهولا يحتاج إلى مختبرات أومعامل معقدة ولا يتكلف رأس مال كبير، بل إن بمقدور من لديهم إلمام بجانب من علوم الحوسبة والبرمجيات أن يقوموا بتصميمها وجعلها متاحة لاستخدام عامة الناس عن طريق ربطها بشبكة الإنترنت، وفي المقابل يحصلون على مردود مالي يتزايد بتزايد عدد مستخدميها.

ومن تلك الكنوز أيضاً الطاقة الشمسية، وهي مصدر آخر من مصادر إنتاج الكهرباء، وأصبح استخدام الإنسان لها يتقدم بشكل متسارع، خاصة مع انخفاض تكاليف إنتاجها في مقابل التكاليف المرتفعة والأضرار البيئية الكبيرة لإنتاج الكهرباء من المصادر التقليدية، مثل الفحم الحجري والنفط والغاز. ومما يميز الطاقة الشمسية أنه يمكن إنتاج الكهرباء منها على مستوى وحدات صغيرة مثل مصابيح الإنارة الخارجية، كما يمكن لكل أسرة إنتاج كل أوجزء من حاجة المنزل التي تسكن فيه من الكهرباء، الأمر قد يؤدي إلى التخفيف عليها من تكاليف استهلاك الكهرباء من الشبكة العامة. كذلك الحال بالنسبة لأجهزة وأدوات الذكاء الصناعي بمختلف أنواعها وتعدد استخداماتها، سواء كان ذلك في التصنيع أو في تقديم بعض الخدمات، مثل خدمة النادل في المطاعم والمقاهي، أو خدمة الحراسة، أو القيام بأعمال النظافة في الشوارع والمرافق العامة، أو المساعدة في تلقيح وحصاد وتصنيف المنتجات الزراعية وفرزها حسب حجمها أو جودتها، إلى غير ذلك من الاستخدامات الصناعية، الأمر الذي قد يغني عن تشغيل أعداد كبيرة من العمال. كما أن الأبحاث العلمية تبشر بقرب التوصل إلى ما يُعرف "بالأدوية الذكية" التي يتناولها المريض وتستهدف فقط مكان المرض أو الخلايا المريضة في الإنسان، دون التأثير على غيرها من الخلايا. كذلك الحال في المناظير الطبية التي لا يتجاوز حجمها حجم حبة الفاصوليا وتسافر في أحشاء الإنسان لإرسال صور تشخص ما به من أمراض تشخيصاً دقيقاً.

تلك كانت أمثلة من "كنوز الحياة"، لكنها كنوز ليست "رِكازا" أو"خبيئة" تركه الأولون ويمكن الحصول عليها صدفة أويمكن أن تستخرج بجهد بسيط، بل هي كنوز مفاتيحها العلم الواسع، المقرون بالإخلاص والعمل الجاد. بعبارة أخرى إن التوصل إلى التقانة الحديثة وتطويرها يرتبط ارتباطا وثيقا بالمستوى الذي وصلت إليه المجتمعات والأمم في العلوم والمعارف والفنون، ويعتمد على ما لدى الأفراد من قدرات على الابداع والابتكار، أكثر من ارتباطه بما يتوفر من أموال نقدية أوموارد طبيعية. وقد ربط القرآن الكريم في الآية السابقة بين نعم الله على الإنسان وبين تفكره وتدبره فيها، وهوتفكر وتدبر مبني على العلم وحب السعي إليه وليس على الجهل والوهم والكسل.

إن المشاركة المستمرة في تطوير التقانة وإنتاجها هوإسهام في اكتشاف كنوز الحياة ومشاركة في الحضارة الإنسانية، التي هي أشبه ما تكون بقطار يتحرك بسرعة فائقة ولا يتوقف إلا عند محطات معينة، وعلى من أراد المشاركة في صنع الحضارة فعليه صعود القطار عند توقفه، أما إذا انطلق بسرعته الفائقة فلا يمكن للمتخلفين صعوده.

ولمّا كانت العلوم والمعارف والفنون هي مفاتيح كنوز الحياة، فإن تلك المفاتيح معلقة في قاعات الدراسة ومختبرات البحث في الجامعات والكليات، ولذلك يعول عليها في القيام بدور هام في عمليات الكشف عن تلك الكنوز، عن طريق تسخير مواردها البشرية المتنوعة في تطوير التقانة بمختلف أنواعها. ومنذ زمن طويل تقوم  كثير من الجامعات حول العالم بإنشاء صناديق استثمار أووقفيات للتطوير والبحث، وقد تتعاون في ذلك مع داعمين من المحسنين أومستثمرين ومطورين من خارجها. وتهدف الجامعات من قيامها بذلك إلى تحقيق أكثر من هدف، فهوناحية يساعدها على تحسين مستوى تصنيفها ومكانتها بين جامعات العالم، ومن ناحية أخرى يمكنها من إيجاد موارد مالية إضافية لتحسين خدماتها التعليمية والبحثية.

بشكل عام، ليس الهدف من الاستثمار في التقانة هوفقط البحث والتطوير، وتقوم به فقط الجامعات لأسباب أكاديمية بحتة، لكنه استثمار تتزايد أهميته باستمرار، وتقوم به مؤسسات متخصصة ذات إمكانات بشرية ومادية كبيرة، وهي صناديق الاستثمار في التقانة، التي انتشرت حول العالم، وأصبحت استثماراتها تصل إلى ما يعادل مئات المليارات من الدولارات.

ولعمان من خلال الصندوق العماني للتكنولوجيا تجارب ناجحة في هذا المجال، حيث دخل الصندوق في عدة استثمارات مع مطورين من داخل السلطنة وخارجها، وكذلك فعلت بعض البنوك التجارية في السلطنة. تجارب الصندوق العماني للاستثمار والبنوك التجارية في هذا المجال يجب أن تستمر  لأن عوائد الاستثمار في التقانة عديدة، فإلى جانب مردوداتها المالية العالية، فإنها تسهم في بناء كوادر متخصصة وتجعل عمان قريبة من التطورات الحاصلة في قطاع التقانة وتمكنها من المشاركة بإيجابية في ركب الحضارة.

هناك نقطة لابد من التنويه إليها هنا، وهي أن قطاع التقانة الحديثة بطبعه قطاع سريع التطور وتتقادم أنظمته وأدواته بنفس السرعة التي يتطور بها. لذلك لا بد من التجديد المستمر  للبنية  الأساسية له، سواء كانت أنظمة وقوانين أوأجهزة ومعدات، وبدون تجديد تلك البنية بشكل مستمر سيكون من الصعب جعله قطاعاً جاذبا أومحفزا للمزيد من الاستثمارات المتصلة به.

تعليق عبر الفيس بوك