نبيل بن محمد الهادي
من أجل حياة هانئة مستقرة لا يكدّرها أي أمر يقلق راحة البال في الواقع المعيش، يجب على كل إنسان أن يوجّه بوصلة حياته ويصنع لنفسه واقعًا حقيقيًّا يعيش من خلاله حياة كريمة، مبتعدًا عن المنغصات التي تعيق الاستمتاع بتفاصيل يومه، فحياته عبارة عن مراحل متعددة، ومن خلالها يعيش محطات تختلف عن الأخرى، يواكب واقعها وتفاصيلها ويتأقلم معها، ومن خلالها ينتقل كل مرة إلى مرحلة جديدة لأن دورة الحياة تتغير بتغير الظروف.
ومن هذه المراحل مرحلة التقاعد الجديدة نسبيًّا والمغايرة في حياة الإنسان، لأنه سيترك مهام وظيفة اعتاد عليها، مع محاولة تغيير روتينه اليومي الذي أصبح جزءًا من حياته حسب السنين التي قضاها في هذا العمل، وكثيرٌ من هؤلاء الناس يصبح انتقاله إلى هذه المرحلة سهلًا وسلسًا، وعادة ما يتأقلم معها بكل سهولة ويسر، ويمهّد لنفسه طريقًا آخر لحياة يومية مختلفة، ويشعر بأن القادم هو عبارة عن مرحلة غامرة بالحرية والابتعاد عن الالتزام بأنظمة العمل التي تفرض عليه قيودًا ذاتية أقرب إلى المادية.
فالبعض ممن حصل على التقاعد تجده يعود إلى قريته التي عاش فيها طفولته، والبعض الآخر يستقر به المقام في المكان الذي قضى فيه سنوات طويلة من عمره بحكم عمله، والبعض الآخر يعود إلى الجانب الاجتماعي وقيامه بزيارات خاصة للأهل والمعارف بشكل مستمر، بالإضافة إلى زيارات الأمكنة التي وُلد وترعرع فيها نظرًا لحبه وانتمائه لها، ويسعى جاهدًا لتعويض ما فاته خلال فترة عمله. ففي هذا العمر، يحاول قدر الإمكان التلذذ بحريته التي حُرِمَت بفضل إعطائه سابقًا جلّ وقته للوظيفة.
أما الفريق الآخر، فيبدأ حياة العزلة، والاختفاء عن المحيطين به ومن حوله، ويصبح ملازمًا بيته، ويترك كل الأشياء التي كان يقوم بها، مثل اللقاءات، والخروج مع الأصدقاء، والتسوق وغيرها، ويدخل في دائرة الصراع النفسي التي ربما تتطور إلى الاكتئاب لاحقًا.
وينقسم التقاعد إلى أربعة أنواع: الأول الخروج ببلوغ السن القانونية للتقاعد، والنوع الثاني الخروج بعدد السنوات التي أقرها قانون العمل، والنوع الثالث التقاعد الطبي، والنوع الأخير الخروج الطوعي، وما يسمى بالتقاعد المبكر. وكل منها له تبعات اقتصادية واجتماعية ونفسية بطبيعة الحال، خاصة لمن لم يُهَيِّئ نفسه للتقاعد.
ومحور الحديث في هذا المقام عن النوع الأخير، وهو الخروج الطوعي. وهنا تجد فئة من الناس ممن خرجت بسبب التقاعد المبكر الطوعي، تبقى متشبثة بالعمل، من خلال عدم قبولها أن هذا الأمر أصبح من الماضي، وأنه كان جزءًا من حياتها، وتظل تتتبع كل مجريات العمل وتفاصيله، وبعضهم يُعايش نفسه على أنه لا يزال موجودًا فيه، ويسعى جاهدًا للوصول إلى معلومات يومية عن الأوضاع وعما هو جديد من خلال قنوات شخصية، سواءً كانت علاقات تربطه بمجموعة من زملاء سابقين أو الأصدقاء، ويسعى إلى فرض وجوده، سواء عبر الأفكار أو النصائح. فتأتي النتائج غير المتوقعة، مثل الصدمة التي شكّلها التقاعد المبكر لهؤلاء الأشخاص، وأن قراره في هذا الأمر لم يكن قرارًا مدروسًا بشكل أفضل.
ونتيجة لذلك، فإن هذا التصرف يبين أن هناك قلقًا وخوفًا ما، ولّد شعورًا بالفراغ القاتل، الذي يصعب عليه ملؤه بشيء آخر، متناسيًا أن العمل يستمر بدونه، ولن يتعطل، لأن الحياة ببساطة مستمرة، وكل شخص لديه مصير مكتوب ومعلوم، فجيلٌ يذهب وجيلٌ يأتي ليواصل المسير، ويضع بصمته، ويترك أثرًا، ويحقق إنجازات جديدة.
التقاعد مرحلة من مراحل الحياة، يجب الإعداد والتخطيط المسبق لها، والتعايش معها بداية لمرحلة جديدة. فالعائلة لها النصيب الأكبر مما كان ويكون، عنوانها التسامح والحب. وينبغي ترك الماضي بخيره وشرّه، والابتعاد عن كل ما يرهق الفكر والجسد، والاهتمام بالراحة النفسية والصحة حتى لا نفقدها، لأنها أثمن ما نملك، وهي من أفضل النعم.
قال أحد الحكماء: "أربعة لا يعرفُ قدرها إلا أربعة: قدر الشباب لا يعرفه إلا الشيوخ، وقدر العافية لا يعرفه إلا أهل البلاء، وقدر الصحة لا يعرفه إلا المرضى، وقدر الحياة لا يعرفه إلا الموتى".