خذوا تاريخكم عن الدراما

 

 

غسان الشهابي

 

ما أن تمكنت صناعة الصحافة في أوروبا والولايات المتحدة، حتى بدأت الأبحاث تتوالى متناولة دور الإعلام في تشكيل الرأي العام، وبدأت تظهر مجموعة من النظريات التي واكبت الصحافة المكتوبة وبعدها الإعلام المسموع، ثم الإعلام المرئي، وذلك قبل أن يصل الأمر إلى ما نحن عليه اليوم، والذي أدى إلى انفجار الكثير من النظريات التي تؤطر آثار الإعلام.

منذ ذلك الوقت والحديث يدور حول نظريات من مثل ترتيب الأجندات، والحصاد، والرصاصة السحرية، وحارس البوابة وغيرها من النظريات التي كانت تواكب كل هذه التطورات التقنية المتسارعة، ولكنها في المجمل تقول رسالة واحدة – وإن اختلف منطوقها – وهي إن هذه الوسائل الإعلامية لا تتحرك من تلقائها، وأنها ليست بريئة ومحايدة؛ إذ لا يوجد شيء اسمه الحياد، فكل ما يرجوه الدارسون والمراقبون أن تتسم الوسائل بـ"الموضوعية" على الأقل، وليس الحيادية؛ لأن من يموّل مؤسسة إعلامية (صحافة، إذاعة، سينما، تلفزيون، موقعاً إلكترونياً، وسائل تواصل اجتماعي...إلخ)، يريد أن يقول شيئاً، يريد أن يوصل رسالته التي يؤمن بها، أو التي تخدم مصالحه، فهو بالتالي لن يكون موضوعياً، ناهيك عن أن يكون محايداً!

ولأننا نشهد في كل رمضان طوفاناً حقيقياً من ساعات البث التليفزيوني، فإنَّ جزءاً منها يتناول جوانب من التاريخ إما القديم أو المعاصر، وهذان التناولان ينطبق عليهما ما ينطبق على الأغراض التي من أجلها يجري تمويل أي مؤسسة إعلامية، فليس من الصعب معرفة من يقف وراء أي عمل مؤرّخ أو مؤدلج، فما أن تبدأ بتحليل "التتر" ومشاهدة حلقات أولية قليلة من أي عمل، حتى تفوح روائح دوافع واضعي العمل. والذكاء ينحصر في كون الأفكار مندسّة في ثنايا الحوارات والكادرات ورسم الشخصيات، أو أن تكون روائح قوية خانقة، وألوانا فاقعة تسوء الناظرين وتنفّرهم.

ولكن مع ما وصفناه من "طوفان"، ورغبة الكمّ الكبير من الجمهور العربي أن "يختم" ما تيسر له من هذه الأعمال الدرامية، فإن القدرة على التمحيص ستغدو ضعيفة، والإمكانات النقدية تتراجع إلى حدٍّ كبير، فتتمكن هذه الأعمال الدرامية من تضمين ما يحلو لها من تشويه التاريخ، ورسم أشوه للشخصيات والأحداث والوقائع غير المُنسجمة إلا مع رواية الجهات الممّولة، أو الجهات التي يُطلب رضاها عن الممولين حتى تبدو حقائق لدى الجمهور يبدأ في ترديدها. وما هي إلا سنوات قلائل حتى تصبح هذه الأعمال الدرامية هي المراجع التي تبني عقول ووجدان الشعوب العربية، ويجري الاستشهاد بها.

عندما أراد معلم أن يُبيّن لطلبته الصغار كمّ القرف الذي يعتور صناعة قطع الدجاج chicken nuggets المفضلة لدى الصغار، قام بعرض عملية التصنيع التي تأنف منها النفوس السليمة من استخدام لجلود وبقايا لا تصلح إلا للقمامة، وسألهم بعد انتهاء العرض عمّن منهم يحب (بعدما رأى) أن يأكل قطع الدجاج؛ لم يتردد الصغار في رفع أيديهم بحماس، فالحقيقة ليست لذيذة عندما يكون الاعتياد والترويج والتسويق هم خصومها.