أوغاد الوادي الطيب

 

غسان الشهابي

 

قبل أيام، نشر أحد أصدقاء الفيسبوك عبارة للشاعر صلاح عبدالصبور من مسرحية "ليلى والمجنون"، جاء فيها: "كيف ترعرع في وادينا الطيب هذا القدر من الأوغاد والسَّفلة؟!".

هذا التساؤل طرحته على نفسي قبل حوالي 30 عامًا، ولكنه يتجدد بين فترة وأخرى مع الأفلام والمسلسلات العربية التي تذهب في الغالب إلى إظهار "الإرهابيين" إما بشكل بالغ البشاعة، وإما بشكل كاريكاتيري ساخر ومستهزئ، إلا في أقل القليل من هذه الأعمال التي تجيب على تساؤل صلاح عبدالصبور عن ترعرع السفلة والأوغاد في الوديان العربية الطيبة.

إنَّ هذا السؤال يفتح اليوم أبواباً غير تلك التي فتحها لي عندما كنت أطرحه قبلاً، إذ لا تريد (أو ربما لا تجرؤ) الأعمال الدرامية العربية تحميل الحكومات والأنظمة وأجهزة الأمن المتناسلة، أيّ نوع من المسؤولية في خلق أشخاص يكفرون بالمجتمعات قبل أن يكفّروها، إذ تخرج الكثير من الإرهابيين (المرفوضة أعمالهم جملة وتفصيلاً) من سجون بالغة القسوة والوحشية، على اعتبار أنَّ هذه السجون والمعتقلات ستعمل على "تربيته" لئلا يعود ثانية إلى ما كان عليه كمعارض، ولكن يخرج أكثر حقداً على الأجهزة والأنظمة، ويريد أن يفتّ في عضدها.

في الوقت الذي ينخر الجوع والفقر والتشرّد واليأس في طبقات متراكمة من المجتمع تتناسل وضعها الاجتماعي والاقتصادي وتتوارثه وكأن لا أمل أن تخرج من هذه الدائرة المغلقة، بينما ترى هذه الطبقة- وهي طبقة عريضة في المجتمعات العربية عمومًا- أن العدالة منتفية في بلدانها، وأن هناك طبقات تُحمل على أكتاف من يدوسونهم بأحذيتهم الثقيلة، وأن مسافات الطبقات الاجتماعية تزداد اتساعاً، وأن الطبقة الوسطى المتعلمة والمثقفة تتآكل لصالح الطبقة الأفقر لتزداد طبقة الفقراء عرضاً، وتريد أنظمة عديدة أن يبقى هذا الوضع لتستمتع بالامتيازات وعدم المحاسبة، فلابد من سحق أي مطالبة للإنصاف أو حتى إبطاء حركة السرقات والاستفادات الكبرى من مقدرات الأوطان التي لابُد من توزيعها بعدل على المواطنين.

لقد اكتظت ترسانات الكثير من الأنظمة العربية بالأجهزة الاستخباراتية، والبشر العاملين فيها، ولكن هذه الأجهزة تزداد نهماً للتوسع والسيطرة، لذلك يصعب التصديق أنها غافلة عن الأصوات التي يصدرها سديم المجرّات، فكيف لا تدري عما يجري من تخطيط الإرهابيين، أو أصحاب المطالب السلمية؟! إنها تدري وتعرف، وتستدرج وتترك الباب موارباً لكي يتوهم المخربون أنهم غافلوا الحرّاس فيقوموا ببعض العمليات العبثية، حتى يجري الاستنجاد بالأمن ليأتي رجاله يرتدون أزياء الأبطال ليحرسوا المجتمعات من تخريب المخربين وإرهاب الإرهابيين، وهذا يعني المزيد من التمكين، وتوسعة إمبراطوريات الأمن، والمزيد من الميزانيات العامة، والأفراد، والتسليح، ومع فشل الحلول الأمنية والعسكرية، إلا أنها الأسرع وليست الأنجع، ولكن لا أحد يفكر في النجاعة ما دامت العصا الغليظة ستسكت الأصوات لعدد قادم من السنوات، كنوع من تأجيل المشكلة وليس حلها.

كل هذا يجري في الوقت الذي تتجه فيه الجامعات العربية- وبقوّة مريبة- إلى دراسات علوم المستقبل، والذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وتفضّ أيديها عن الأخذ المعمّق بالدراسات الميدانية لعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، والعلوم الإنسانية التي ترصد وتُحلل وتفسر الظواهر والتحوّلات، ويمكنها رسم السيناريوهات التي يمكن أن تنتج عنها هذه التحوّلات السريعة والعميقة، وكيف يتأسس الإرهابي وعدو المجتمع من رحمه، وعلى من تقع مسؤوليات تهيئة التربة الخصبة لهذا النوع من البشر؟ هذا إن لم تكن هذه الدراسات مقيّدة ومسيّسة تقول في خلاصاتها: ليس بالإمكان أبدع مما يجري الآن. يا صلاح، يا ابن عبدالصبور، تعال نشرب كؤوساً من الشاي الثقيل، لنتساءل: " كيف لا يترعرع في وادينا الطيب هذا القدر من الأوغاد والسَّفلة؟!".