أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي
شكلت العلاقة المتبادلة بين البروتينات ومركب "دي إن إيه" تحدياً كبيراً لجميع الباحثين المهتمين ببحوث نشأة الحياة؛ إذ إن احتياج مركب "دي إن إيه" للبروتينات لأداء وظيفته واحتياج البروتينات لهذا المركب للقيام بوظائفها، يجعل من المستحيل فرض وجود أحدهما قبل الآخر، ولذا كان لابد من إيجاد فرضية بديلة ومبتكرة تحل هذه الإشكالية المعقدة.
أما مركب "آر إن إيه" فيسهم بدور مهم في العمليات البيولوجية المختلفة في الخلية الحية؛ ولذا فقد اقترح البعض بأن هذا المركب ربما يكون قد سبق مركب "دي إن إيه" والبروتينات في تكونه ومنه نشأت اللبنة الأولى للحياة. ومركب "آر إن إيه" أقل تعقيدا في تركيبته الكيميائية مقارنة بمركب "دي إن إيه"؛ فهو يتكون من سلسلة كيميائية واحدة، بينما يتكون مركب "دي إن إيه" من سلسلتين كيميائيتين ترتبطان معاً على شكل حلزوني، وبالتالي يكون مركب "آر إن إيه" أولا هو الأكثر احتمالا، وقد اشتهرت هذه الفرضية بفرضية عالم "آر إن إيه".
ومما يدعم هذه النظرية قدرة هذا المركب على التوالد الذاتي تماما، كما يقوم بذلك مركب "دي إن إيه" وكما نشاهد ذلك في بعض الفيروسات، كما لوحظ أن هذا المركب يستطيع القيام أيضا ببعض أدوار البروتينات فهو يسرّع بعض التفاعلات الكيميائية المرتبطة بتصنيع البروتينات في المصنع البيولوجي والمسمى بـ"الريبوسوم"، كل هذه الأمور دفعت وبقوة في اتجاه تبني عدد من المختصين فرضية عالم "آر إن إيه" واعتبارها من أهم وأكثر الفرضيات قبولا في تفسير نشأة الحياة.
ومما ساهم في قبول هذه الفرضية وساندها عدد من التجارب العلمية التي أوضحت قدرة مركب "آر إن إيه" على القيام بوظيفتي التوالد الذاتي وتسريع التفاعلات الكيميائية؛ فيما يعرف بالحساء البدائي، وهو خليط من مواد كيميائية يُعتقد أنها كانت متواجدة معا في الظروف الأولية لتكون الخلية الحية الأولى. لكن هذه الفرضية وبالمقابل تواجه تحديات جمة؛ منها أن مركب "آر إن إيه" من المركبات التي تفتقد الى الثبات والاستقرار فهي تتفكك بشكل سريع، وبالتالي لا يمكن لها الاستقرار في محيط آخر غير محيط الخلية الحية لفترات طويلة تسمح لها بالقيام بوظائفها الحيوية.
كما إن فرضية سهولة تركيبتها الكيميائية تنطوي على كثير من التساهل، فمركب "آر إن إيه" وإن كان يتكون من سلسلة كيميائية واحدة مقارنة بمركب "دي إن إيه"، إلا أن الكثير من وظائفه وخاصة تلك المرتبطة بتصنيع البروتينات تحتاج الى أن يكون مركب "آر إن إيه" بتركيبة ثلاثية الأبعاد تماما كالبروتينات، وقد أشرنا فيما سبق الى صعوبة تكون التركيبة الثلاثية الأبعاد للبروتينات. ولهذا؛ فالسؤال الذي لم تتطرق اليه هذه الفرضية هو: كيف تكون مركب "آر إن إيه" أولا؟ لأنه ليس بالمركب البسيط الذي يمكن أن يتكون بسهولة ويسر وإن كان أقل تعقيدا من مركب "دي إن إيه".
لقد جرت محاولة تصنيع مركب "آر إن إيه" في المختبرات واتضح أن التفاعلات الكيميائية التي تؤدي الى تكون هذا المركب تحتاج الى تحكم دقيق في الظروف المحيطة وأي تغير في هذه الظروف يؤدي الى تكسر المركب، إضافة الى كون هذه التفاعلات الكيميائية تحتاج الى درجات حرارة منخفضة ووسط مائي حامضي، بجانب بعض العوامل الأخرى وجميع هذه العوامل يصعب تواجدها معا في تلك الحقبة الزمنية.
ولحل هذه التحديات طرحت حلولا أخرى، فاقترح البعض أن نشأة الحياة كانت من مركبات أولية انعدمت فيما بعد وعرفت هذه الفرضية بفرضية عالم ما قبل "آر إن إيه"/ وكان الدافع وراء هذه الفرضية أن هناك مركبات بسيطة يمكن أن تتكون بسهولة نسبيا في تلك الحقبة الزمنية وهذه المركبات تمتلك خاصيتين أساسيتين لنشأة الحياة وهما التوالد الذاتي والقدرة على تسريع التفاعلات الكيميائية.
هناك فرضيات أخرى تفترض تكون مركبات الأيض أولا، وعمليات الأيض هي سلسلة من التفاعلات الكيميائية التي تقوم بها الخلية الحية لإنتاج مواد كيميائية بسيطة هامة وأساسية تستخدم في بناء المركبات الهامة للحياة كمركبات "آر إن إيه" و"دي إن إيه" والبروتينات، وذلك باستخدام محفزات كالحديد مثلا لتكونها قبل تكون الخلية ومنها تكونت المركبات الأولى الهامة لنشأة الحياة.
إن تعدد الفرضيات حول نشأة الحياة يوحي وبشكل واضح الغموض الكبير الذي ما زال يكتنف بحوث نشأة الحياة على هذا الكوكب، وأن العلم لم يحسم أمره بعد ولم يستطع أن يصل الى أدلة ترجح فرضيات معينة بقوة كافية أمام الفرضيات الأخرى، ولربما نحتاج الى ثورة كبيرة في التفكير العلمي وأدوات البحث المختلفة حتى نستطيع أن نمضي قدماً، لكن الأمر الواضح أن الطريق ما زال طويلا.
كما إنَّ الاتكاء على مسألة الزمن الطويل لتكون هذه المركبات صدفة ودون توجيه لا يدعمه الدليل العلمي لأن هذه المركبات تتكسر وتتحلل مع مرور الوقت ولذا فإن أي نظرية علمية عليها أن تفسر لنا في الوقت نفسه كيف تم الحفاظ على المركبات المعقدة من التحلل والتكسر لملايين السنين.
لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن تكون أي من هذه المركبات الكيميائية دون توجيه أمر يقترب من الاستحالة فمن يعمل في المختبرات يدرك تماماً صعوبة تصنيع مركبات بسيطة وأهمية ضبط الشروط الدقيقة لإنتاجها فما بالك بمركبات غاية في التعقيد تنشأ في هذا الفضاء الرحب دون توجيه؟!
"سلسلة علمية تحاول القاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة، والتي ما زال العلم يسبر أغوارها ويحاول جاهدا كشف مكنون أسرارها... كيف نشأت الحياة؟".
**********
مصادر للتوسع:
- The Cell's Design (Reasons to Believe), How Chemistry Reveals the Creator's Artistry – Fazale Rana
- Origin of Life, What Everyone Needs to Know – David W. Deamer