خالد بن الصافي الحريبي
هل لك أن تتخيل أن تعيش في مدينة خدماتها ذكية، كل أُناسُها تشتاق لك، وأماكنها كلها ماء وخُضرة ووجوه حسنة؛ تُرحب بك وتُعْرِّفك باسمك الكريم ومساكنها مُستدامة وطُرقها انسيابية وفرص سبل رزق الرحمن فيها متكافئة؟ هذه هي المدن الذكية التي يطمح للعيش الكريم فيها أكثر من 7 مليارات من البشر الذين يعيشون على كوكب الأرض.
السلطنة كانت من الدولة السباقة في الوطن العربي التي أسَّست منصة المدن الذكية؛ وهي مساحة مُشتركة لتبادل المعرفة من أجل قيادة تمكين وتيسير مشاريع ومبادرات وابتكارات منظومة ذكية متكاملة مع الاستفادة من أدوات الاقتصاد الرقمي. وفي إحدى جلسات هذه المنصة المثرية وصفت الضيفة المتحدثة الرئيسة التنفيذية لشركة "سيمنز" إلى أفضل الممارسات التنافسية العالمية وكيف أن من يطلب علم المدن الذكية فعليه بالصين؛ حيث بينت حول التنين الصيني مفهوم الدولة الذكية من خيال إلى واقع، وكيَّفها حسب التوجهات الحكومية؛ عبر نشر الإنترنت والتحكم بها وربط بيانات المواطنين والمقيمين التي تجمعها مختلف أنواع المستشعرات في كل المرافق في شبكات العشرات من مدن الصين الذكية. وللحاق بركب الصين خصصت إدارة بالرئيس الأمريكي جو بايدن 500 مليار دولار أمريكي (أكثرمن 190 مليار ريال عماني) في إسناد مشاريع بنية أساسية رقمية للمؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة وفي مشاريع نشر النطاق العريض والطاقة المتجددة ووسائل النقل الكهربائية. فهل هذه هي القصص الوحيدة لأفضل الممارسات الذكية العالمية، أم أنَّ هناك قصصاً أخرى تعبر عن غايات متنوعة تستحق أن نتأمل العبر منها؟
مكَّة
إنَّ مكة المكرَّمة اليوم أكثر من كونها مدينة القبلة التي تهوي إليها أفئدة حوالي ملياري مسلم حول العالم؛ فقد أصبحت اسمًا في مختلف لغات العالم يعني الوجهة والمقصد والقبلة لمجال معيّن. وبصورة عامة، فإنَّ رؤية المملكة العربية السعودية 2030 الطموحة نجحت في غايتها لتنفيذ عدد من المشاريع التي تزيد من جاذبية المملكة يوماً بعد يوم كقبلة للاقتصاد الرقمي والمدن الذكية. ومن أنجح هذه المشاريع ربط فكرة أحد أهم أركان ديننا الحنيف بأكبر تحدي تطوير تطبيقات رقمية في العالم؛ حيث شارك في "هاكاثون الحج 2018" الذي أتاح للملكة التعرف على إمكانيات 3 آلاف مطور تطبيقات حول العالم بما في ذلك السلطنة. ومن المشاريع الجريئة أيضا مدينة نيوم الذي يستثمر جهاز الاستثمارات العامة السعودي فيها أكثر من 190 مليار ريال عماني؛ لتطوير أذكى مدينة في العالم بأحدث التقنيات المتقدمة على ساحل البحر الأحمر بمساحة 26500 كيلومتر مربع، ومن المتوقع أنْ تكتمل المرحلة الأولى منها بحلول العام 2025 إن شاء الله.
مكاو
على الرَّغم من قربهما نُطقاً إلا أنني لم أشهد مدينتين في العالم أبعد مبدئيًّا من مكة ومكاو؛ فمكاو التي تعد سرًّا من أسرار التنين الصيني الذي عادةً ما نسمع بمدنه كبكين وشنجهاي؛ هي إحدى أنجح "المدن الاقتصادية الخاصة" في العالم؛ إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لهذه المستعمرة البرتغالية السابقة حوالي 45 مليار دولار أمريكي، رغم أن مساحتها لا تزيد على 33 كيلومترًا مربعًا غرب هونج كونج. وسر مكاو أنَّ غايتها أن تكون أذكى مدينةً في جذب الاستثمارات والأموال عبر إشباع ملذات الإنسان المحرَّمة في أغلب مدن العالم. فهذه المدينة -التي يفوق اقتصادها اقتصاد مدن أمريكية كبرى سبع مرات- ظاهر اقتصادها "الذكي" كونها وجهة القمار والميسر المباح، وباطنه كونها وجهة عالم الإجرام من غسيل أموال واتجار بالبشر.
السِّحر الكولمبي
جمال مدينة ميديّين (أو ميديلين) الكولمبية ساحر؛ فوجوه أناسها حسنة نضرة وأرواحهم شابة وقهوتهم منعشة وفنهم شجي، وطبيعتهم عذبة، تحسبها من خضرتها وتنوعها فردوساً. وتعد هذه المدينة -وهي إحدى عرائس سلسلة جبال الإنديز في أمريكا الجنوبية- ذكيةً؛ لتركيزها على ما يسمى بـ"الاقتصاد البرتقالي" للخروج من جائحة الصراع مع آفة المخدرات التي عصفت بها لعقود. وهذا الاقتصاد البرتقالي يركز على الاستثمار في المؤسسات التي تدمج بين الإبداع وتصنيع المحتوى المحلي، كالبرمجيات والثقافة والفن الرقمي. ومن أجمل ما في ميديّين أناسها الذين تجمعهم "الحديقة المعرفية" في كل حي؛ حيث اتفقت بلدية كل حي على تخصيص نسبة من ميزانية الحي للعناية بحديقة الحي العامة، وهي واسطة عقد كل حي يسهل الوصول إليها من كل أطرافه مشياً أو عبر وسائل نقلٍ عامةٍ عصريةٍ صديقةٍ للبيئة. تشمل الحديقة المعرفية معارض لرواد وموهوبي الحي والضيوف، إضافة لمكتبة عامة وإنترنت ومساحات معدة للعب الأطفال والرياضة والمناسبات، وتغذي مرافقها الطاقة المتجددة.
"كما دجاجة الجبل"
من ألطف مخلوقات طبيعة محافظة ظفار في سلطنة عُمان طائر الحجل البرّي، ذو المشية الظريفة، المعروف بدجاج الجبل. وتحكي طرفته الأسطورية أنه أعجب بخيلاء ومشية الطاووس فاجتهد في "تقليده"، إلا أن الطاووس طار وارتفع ودجاجة الجبل وقعت ولا هي اتقنت مشيته ولا هي تذكرت مشيتها. وحال مشية كثير من المدن حول العالم في سعيها لتحول خيالها لواقع، وتسهم في بناء دولة ذكية، كما دجاجة الجبل. وفي رأيي، بين نموذج المدن الذكية التي تركز على التقنيات التكنولوجية، وتلك التي لا تعترف إلا بالحسابات المالية ومدن الاقتصاد البرتقالي، خارطة الطريق الأجدى لنا هي الاستثمار في شراكات بين منظومة المدن الذكية وشركات ناشئة متخصصة في ابتكار منتجات وخدمات الاقتصادين الأخضر والأزرق، وتيّسر هذه الشراكات جهاتٍ كمنصة المدن الذكية. ومن الشركات الناشئة هنا -على سبيل المثال لا الحصر- شركة المفاهيم المستدامة وإنوتك وخدمات إعادة التدوير و"أوتاكسي" و"بسين"...وغيرها؛ وذلك لأنَّ هذه الشراكات تطلق الإمكانيات الكامنة في روادنا ليكتشفوا خيرات جبالنا وودياننا وسهولنا وبحارنا بصورة أكثر استدامة وذكاء. كما أنها هي سبيلنا للعيش آمنين فخورين وشاكرين للمولى عز وجل، على نعم السعي لغاية مساكن مستدامةٍ وطرقٍ إنسيابيةٍ وفرص سبل رزقٍ متكافئةٍ في ظل نهضة رؤية "عمان 2040" المتجددة بقيادة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - أيده الله.