على رمش مومياء

 

غسان الشهابي *

* كاتب بحريني

وعدتنا مصر بعرض رائع لموكب المومياوات الخارج من وسط القاهرة من المتحف القومي العتيد، إلى متحف الحضارة الجديد في الفسطاط، وقد وفَّت مصر بوعدها وجاء العرض جميلاً رائعاً ومبهراً، منظماً، لا يقل عما يُمكن أن يحدث في أيّ دولة متقدمة أخرى تضبط عليها المواقيت، وكل ما تقدّم يوحي بعدد من النقاط التي أرجو أن تتسع لها مساحة المقال:

- مصر، بحجمها وتاريخها، وحضورها الإقليمي والوجداني العربي، بحاجة ماسة ومتجددة لهذا النوع من الفخر الوطني الجامع، الذي يتعزز بمنظومة من الإجراءات والقرارات التي تجعل هذه المظاهر الجميلة تكتمل وتتحد مع الفعل اليوم، بما ينتج هديراً قوياً في المصانع والمعامل والجامعات والسياحة والشارع، وغيرها من النواحي.

- يأتي من يقول: أليست البلاد أحوج ما تكون لهذه الأموال التي صُرفت في الاستعراض؟ نعم، وهذه هي حاجتها، بأن تمهد الأرض أمام السياحة لتنتعش من جديد، وتنتعش مع الكثير من القطاعات، وهذا ما افتقدته مصر مع الكوارث واستهداف السياحة، وكذلك مع أزمة كورونا العالمية.

- منذ نصف قرن تقريباً، يواصل العاملون في الحقول الفنية المصرية الشكوى من تردِّي الأوضاع الفنية، وضعف الإنتاج، وسيادة "أفلام المقاولات" لفترة من الزمن، وسيطرة "البترودولار"، كما أسموها، وهيمنة الفكر السلفي (الوهابي) أحياناً. وفي اعتقادي أن أغلبها كانت تهرباً من تحمل المسؤولية عن تردي الإنتاج الفني، وسيادة التساهل في شروط الإنتاج تحت مقولة "مشّي حالك"، على اعتبار أن المتلقي سيتقبل أي عمل بأي تفاصيل... ها هو ذا عمل متقن، لا أقول إنه وصل إلى درجات لا تضاهى، بل أقول إن هذا الحدث من شأنه أن يضع العارض (المنتج والأطقم الفنية)، والمعروض (الأعمال الفنية)، والمستعرض (المتلقي) على عتبة جديدة يفترض ألا يعملوا على البناء عليها، والاهتمام بالتفاصيل والإبهار والإتقان، فمن التفاصيل تأتي السمعة العالية في كل شيء.

- اتصالاً بالنقطة السابقة، فإن العرض الجميل الذي شهدناه مساء السبت يُفترض أن يكون ديدناً، يحفز شباب وشيوخ التلحين، ويحقن العازفين للتصدي للأعمال المعقدة، ويأتي بأفضل الشعراء، ويجعل شعراء آخرين يأتون بأفضل ما لديهم، وكذلك المغنين، ومصممي الاستعراضات، ومصممي الأزياء، أي تتكامل فيها صناعة استعراضية متكاملة تستلهم من الحضارات المختلفة ما يجعلها تنبض بيننا، لا أن يكون هذا العرض كـ"بيضة الديك".

- قيام مشادات متوقعة بعد الانتهاء من العرض المسائي الرائع بين من يقول إن مصر فرعونية ولم تكن ظلاماً وجهلاً وفتحها بدو أتوا بدين من الصحراء ليدَّعوا أنهم من أناروها، وبين من يقول هذه البلاد عربية إسلامية وحسب، فالحضارات تتراكم، ويقف بعضها على أكتاف بعض، ولذلك فإن أيّ نبذ أو نفي لأي مكوّن من مكوّنات الحضارات المصرية (كما في أيّ بلد عريق آخر)، سيجعل البنيان العام للتسلسل التاريخي ناقصاً. ففي مصر (تحديداً) يأتي السياح من أقاصي الأرض ليشهدوا عظمة الفراعنة، ويزوروا دير سانت كاترين، ويسترخوا مساءً في حي الحسين.. فأي فضل لحضارة على الأخرى؟!

مصر وعدت... فوفَّت.