د. بدر الشيدي
لا أدري بالضبط لماذا يطلق على الوزارات حقائب؟ ويقال لمن يتولى مهام الوزير أو التوزير بأنه استلم حقيبة وزارية؟ هل في المعنى مدلول رمزي لما يمكن أن تخفيه الحقائب عن الأنظار، أو لأهمية ما تحتويه من وثائق بالغة الأهمية؟
لعلَّ التسمية جاءت من التقليد الملكي البريطاني العريق؛ فمن يتولَّى الوزارة في بريطانيا يجب أن يتسلم حقيبة، وكل الوزراء يتسلمون حقائب، وتقضي التقاليد أن تكون الحقائب لونها أحمر، ويطلق عليها "حقائب الإفاد"؛ وهي بالفعل حقائب حقيقية لونها أحمر، مبطنة بالحرير الأسود ومغطاة بجلد قرمزي، ينتجها مصنع "بارو وجيل". هذه الحقائب يتسلمها الوزراء ويضعون فيها الوثائق والمستندات ذات التصنيف السري.
هناك أيضا الحقائب الملكية الحمراء، التي تُرسل إلى الملكة يوميا من الوزارات وتوضع فيها الوثائق والقرارات التي تتخذها الحكومة لتتطلع عليها الملكة وتوقعها. ويجب على الوزراء بجانب الحقائب الحمراء أن يستعملوا حقائب يدوية أخرى لوضع الوثائق الخاصة والأقل أهمية من الوثائق السرية. أما الحقائب ذات اللون الأسود فهي مخصصة للسفر. وهي كلها ذات مستوى أمني عالٍ، تقي من الحريق أو المياه في حالة الغرق. يقال إن تكلفة الحقيبة الواحدة تبلغ أكثر من 865 يورو، والحكومة البريطانية أنفقت 57260 يورو على حقائب جديدة بين عامي 2002 و2007. وأشهر هذه الحقائب الحمراء: حقيبة وزير المالية، التي صُنعت لوليم جلاستون عام 1860 ويطلق عليها "حقيبة ميزانية جلاستون"، وتعرض على الصحافة عندما يعلن وزير المالية ميزانية الدولة والخطط المالية. ظلت هذه الحقيبة تستخدم حتى عام 2011، ثم سحبت بسبب تهالكها ليتم عرضها في متحف غرفة حرب تشرشل. كذلك هناك حقائب أقل مستوى، وعادة ما يكون لونها أخضر يستلمها المعينون لما دون رتبة الوزراء.
ولعلَّ أشهر الحقائب في الوقت الحالي بالطبع: الحقيبة النووية التي ترافق الرئيس الأمريكي، وتُحمل معه أينما ذهب؛ وهي رمزية بالطبع ذات دلالات قوية. وكذلك الحقائب الدبلوماسية التي هي في الحقيقة اسم رمزي لما يمكن أن تُحمل فيه وثائق الدولة.
شخصيًّا.. أتذكَّر مرة من المرات ظهر الراحل معالي قيس الزواوي وكان وقتها نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية على شاشة التليفزيون، واقفا أمام مبنى وزارة المالية يحمل حقيبة بيده، وهو يعلن عن الموازنة السنوية للدولة.
ما أريده هنا هو التحدث عن الحقائب الوزارية بالمعني البسيط للكلمة؛ الحقيبة بمعني "الشنطة" فقط لا غير.
يَذكر الراحل الوزير الشاعر غازي القصيبي في كتابه "حياة في الإدارة" عندما كان وزير الصحة، وكان يتعامل مع سيل لا ينقطع من الأوراق، وأنه كان يأخذ معه إلى المنزل كل يوم حقيبتين أو ثلاث حقائب (من حقائب السفر)، وفوق ذلك كان يعود في المساء عندما يكون هناك اجتماع أو مواعيد عاجلة.
أقرأ هذه السطور، وأتذكر موقفا مشابها حدث معي؛ إذ كُنا في اجتماع خليجي على مستوى وزاري، وكنت ضمن وفد وزير دولتنا، واستمرَّ الاجتماع لساعات من الليل -هو أصلا لم يبدأ إلا في المساء- وشاهدت أحد الوزراء يُغالبه النعاس، لا يستطيع التركيز في المواضيع التي تُطرح للنقاش، وكان اجتماعًا حاسمًا لأمر ما، ولا بد أن يتَّخذ الوزراء قرارا حاسما في تلك المواضيع. رأيت أحد أعضاء الوفد يتحرك من مقعده بين الحين والآخر ويذهب للوزير ويهمس في أذنه، ثم يعود، وبعد لحظات يذهب مرة أخرى. استمرَّ الوضع هكذا إلى أن انتهى الاجتماع. كان منظر لافت، لأن أغلب الوفود كانت تتابع ما يحصل بين الوزير وذلك الشخص، وقد يحصل بعض المرات أن يتدخل الوزير في النقاش دون تخطيط ويلقي بكلمة أو عبارة خارجة تماما عمَّا يتم مناقشته، مما كان يسبب إحراجا لبقية الوفد وللاجتماع، ناهيك بالطبع عن إحراج للدولة التي يمثلها الوزير، وقد يتسبب في كوارث لبلده، خصوصا إذا وافق على قرار أو رفض قرارا لا ينسجم مع مصلحة البلد، إضافة لتعطيل الاجتماع والقرارات.
من حُسن الصُّدف أنَّني شخصيًّا أعرفُ ذلك الشخص الذي يذهب للوزير وتربطني به علاقة متراكمة منذ سنوات طويلة، ولا حرج بيننا في أي شيء، أو كما يقال "البساط أحمدي بيننا". دُعي الوزراء لجلسة مغلقة، فخرجتْ كل الوفود المرافقة إلى القاعة، ريثما تنتهي الجلسة المغلقة (أصلا لم تستمر إلا دقائق، تم الاتفاق فيها على كل النقاط والقرارات). انتهزتُ الفرصة وجلست بالقرب من صديقي وسألته بمنتهى الطرافة: ما بالك لم تهدأ، رايح جاي على معالي الوزير، هلكت معاليه؟ نظر لي والابتسامة الممزوجة بالحسرة على مُحيَّاه، وقال لي: لا أقول إلا الله يعين معاليه. تصدق، معاليه يكاد يعمل في اليوم أربع وعشرين ساعة لا أبالغ إن قلت ذلك. تصور معاليه نحن لا نراه في الوزارة إلا بعد الثانية عشرة. يخرج من المنزل في السابعة والنصف ويذهب مباشرة إلى اجتماعات اللجان التي يرأسها، ثم يذهب إلى اجتماعات لجان أخرى هو عضو فيها وشركات حكومية عضو أو رئيس مجلس إدارتها، بعد ذلك يذهب لمبنى مجلس الوزراء، ثم يعود إلى الوزارة وقد قاربت الساعة الواحدة ظهراً، ريثما يحين موعد الصلاة يكون قد أنهى بعض المعاملات أو المقابلات. ينتهي دوام معاليه في الخامسة مساء. وعندما يعود معاليه للمنزل تكون خمس أو أربع حقائب على الأقل قد جُهِّزت لمعاليه يحملها معه، يتحتَّم عليه أن يُنهِي تلك الأوراق ولا تعود للوزارة إلا بتوجيه وتوقيعها كلها". ويضيف صديقي: "تصور حتى وهو في السيارة يشتغل ويطالع الأوراق، ناهيك عن الاتصالات التي تأخذ وقتا طويلا".
نقول ذلك ونسترجع القرارات التي تصدر بتنصيب عدد من الوزراء في مناصب عدة وفي عضوية لجان وتعيينهم رؤساء مجالس إدارات أو أعضاء في مؤسسات عامة. وبذلك تطل علينا نظرية السوبرمان أو الرجل الخارق الذي لا يُوجد شبيه له. نتساءل عن ما مدى الطاقة التي يستحوذها هذا الرجل؟ هل هو فعلا جدير بتحمل كل هذه الأعباء الموكولة إليه؟ من أين يأتي بكل هذه الطاقة التي تسنده في عمله هذا؟ لا أعتقد طبعاً أن "البشري" يستطيع تحمُّل كل هذا.
يسود اعتقاد في أغلب دول العالم الثالث بأن الوزارة تشريف وليست تكليفا، وأنه كلما زادت مناصب الوزير وتعددت حقائبه زاد شرفه وتضخمت معه الأنا، أيضا من التقاليد الراسخة في أغلب هذه الدول أن من يعين وزيراً لا يمكن له أن يستقيل أو يرفض حقيبة من الحقائب؛ لأن ذلك يدخل في قائمة معارضة الحاكم والسلطة، فتجنب ذلك هو القبول بحمل تلك الحقائب. لذلك قد يكون الوزراء معذورين وليس لهم من خيار.
أعان الله الأوطان على أصحاب هذه الحقائب، وأعان الله الوزراء على حقائبهم، وأعان الحقائب عليهم.