خالد بن الصافي الحريبي
ما جَوابك لو خُيرت بين أن تكون معروفاً بين الناس كما أنت الآن؛ أو أتكون شخصاً لا يعرفه أحد على الإطلاق، وتخيَّل أن تبلغ قيمة إرثك الذي ابتكرته في هذه الحياة حوالي مليار ريال عُماني خلال العشر سنوات المقبلة وبحلول عام 2030؟!
هذا هو وضع ساتوشي ناكاموتو؛ الشخص الغامض الياباني الذي طوَّر تقنية البلوكتشين (سلاسل الكتل)، وأكبر عملة افتراضية وهي البيتكوين في أوائل الثلاثينات من عُمره بداية من العام 2009. ومنذ ذلك اليوم، نمت استخدامات "تقنية البلوكيتشين" من قبل الجهات الحكومية والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني في التعاملات المالية واللوجستية والتعليمية والصحية والقانونية والفنية...وغيرها، ووصل مُعدل نمو محافظ عُملاتها الافتراضية إلى حوالي عشرة ملايين محفظة سنويًّا. وكحال كل التقنيات المتقدمة الناشئة، لا توحي ترجمتها الحرفية باللغة العربية "سلاسل الكُتل" بالقيمة الحقيقية والتغيير الجذري لهذه التقنية. بينما المعنى الحقيقي للبلوكتشين هو سلاسل دفاتر وسجلات التعاملات اللامركزية عبر الإنترنت التي توثقها دون الحاجة لوسيط. وقد تعرفت على هذه التقنية لأول مرة في دلالة معرفية ضمن دلالات منصة "إدلال التعليمية" المعروفة التي وصل عدد مستخدميها لحوالي ربع مليون مستخدم متحدث بالعربية من خارج السلطنة. ويكفي أن نعلم أن حجم سوق البلوكتشين والعملات الافتراضية يتجاوز في مجتمعنا اليوم الملايين من الريالات يستثمرها عشرات الآلاف من المواطنين والمقيمين للاستعانة بهذه التقنية الناشئة في التعافى اقتصاديًّا واجتماعيًّا من جائحة "كوفيد 19"، فهل نعتبرها هبّةً تقنيةً عابرةً أم عِلماً نافعاً؟!
البلوكتشين والحكومات
الجذر الحقيقي لازدهار البلوكتشين يتمثَّل في تحول ثقة الكثير من الناس حول العالم في تخليص تعاملاتهم من الجهات المركزية إلى تقنية مُشفَّرة يضمنها الناس بين بعضهم البعض، كنتيجة مباشرة للأزمات المالية العالمية المتلاحقة التي زعزعت الثقة في المؤسسات المركزية المالية التقليدية. وبينما يُشير البعض إلى أنَّ أكثر جهة حكومية معنية بهذه التقنية هي المصارف المركزية والبنوك؛ إلا أنَّه مع الزمن ستتأثر كل الجهات التي تختص بتسجيل التعاملات كوسيط؛ كالكاتب بالعدل وأي جهة مماثلة. ولهذا السبب؛ لا تزال وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين تُشكك في استقرار وشرعية العملات الافتراضية المبنية على تقنية البلوكتشين، ووصفتها الشهر الماضي بأنها "غير فعالة". ومع ذلك، صرَّحت يلين بأنَّ الحكومة الأمريكية تعمل على إطلاق عُملتها الافتراضية خلال الأعوام المقبلة؛ لأنها ستكون "أسرع" و"أيسر" و"أرخص" من بيتكوين!! ويعكس تحفظ المصارف المركزية وجهات إنفاذ القانون على تقنية البلوكتشين، مساسها بمصالح جماعات ضغط البنوك التقليدية التي تملك قوة خشنة سياسية ومالية وقانونية، إضافة إلى تحفظ هذه الجهات على تشفير وسرية تعاملات البلوكتشين التي تجعلها جذابة للأنشطة الخارجة عن القانون. ويُحسب لحكومة سويسرا السبق في فبراير الماضي في إعلان إحدى محافظاتها تبنِّي نظام تحصيل الضرائب يستخدم تقنية البلوكتشين.
البلوكتشين والرموز غير القابلة للاستبدال NFT
ونظرًا لأن الاستثمار الخاص في التقنيات الناشئة يُعد عالي المخاطر؛ فإن رؤوس الأموال التقليدية غير الشجاعة تفِر منه فِرارها من الأسد، وفي المقابل فإن رواد صناديق رأس المال الجريء (أو المغامر) يضخون المليارات في شركات وحاضنات ومُسرّعات التقنية المالية، وبالأخص تلك التي تطور شركات البلوكتشين والعُملات الافتراضية. وخليجيًّا، تفوز البحرين -وهذا ليس بغريب كونها الدولة الخليجية السباقة تاريخيًّا في مجال التعليم والتقنية المالية- بسبق تسجيل شركة "رين"؛ وهي أول شركة تقنية مالية خليجية متخصصة في الوساطة في بيع وشراء العملات الافتراضية؛ مثل: بيتكوين، وإيثيريوم، ولايتكوين. ويُحسب هذا السبق تجربةً رائدةً في منح تراخيص مؤقتة للتقنيات تُشرف فيها الجهات الرقابية على حاضنات تُسمى بالصناديق الرملية (Sandbox)، ومن أبرز الاستخدامات الحالية للبلوكتشين: استخدامها من قبل رواد الاقتصاد الإبداعي والفن الرقمي في صك عملات رقمية؛ توزع على الزبائن تُثبت وتُوثق أصالة أعمالهم الفنية، عن طريق منصات مثل الإيثيريوم. وتُسمى هذه التقنية المبنية على البلوكتشين بالرموز غير القابلة للاستبدال أو (Non-Fungible Tokens)؛ فعلى سبيل المثال: بيعت لوحة فنية بحوالي 70 مليون دولار عبر منصة "بيبل"، كما وصل نجاح هذه التقنية إلى خليجنا مع بيع فنان سعودي شاب أعماله الفنية بنفس هذه التقنية. ونظرا لتُمكن أجيالنا الناشئة من الاقتصاد الإبداعي والفن الرقمي، فإنَّ تقنية البلوكتشين سبيل رزق مثالي يُسهم في تعافينا اقتصادياً واجتماعياً من الجائحة.
البلوكتشين والمجتمع المدني
لم يَجعل الاستهلاك الكبير للطاقة للبلوكتشين صديقاً في المجتمع المدني؛ إذ يصل إلى استهلاك دولة صناعية صغيرة الحجم. وهذا مردُّه أنَّ تعاملات البلوكتشين تتطلب حواسيب قوية قادرة على حل المعادلات المطلوبة وحفظ السجلات بما يسمى التنقيب أو (Mining). ولهذا السبب تتفق جمعيات البيئة ونشطاء التغيُّر المناخي مع حكوماتهم في التحفظ على التوسع في تبني هذه التقنية الناشئة المتقدمة، إلا أن فعّالية تقنية البلوكتشين في توثيق إيصال الدعم للمستحقين بصورة آمنةٍ وراقية يجعلها نافعة من وجهة نظر إنسانيةٍ وتقنية.
هبّةٌ أم عِلمٌ نافع؟!
إنَّ التطوُّر من سُنن الحياة التي لن نجد لها تبديلا، إذ قال عز قائلا عليما في مُحكم كتابه الحكيم على لِسان فتية أهل الكهف: "فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا". وهنا، بيَّنت لنا الآية تبدل العُملة الورقية كدليل قاطع على تبدل الزمن. وعليه فإن تطور ثقتنا ووسيلة تبادلنا لقيمة هذه الثقة؛ سواء عن طريق العملات الورقية، كما جاء في الآية أو غيرها؛ سنة كونية تتطور مع الزمن كما تبدَلَ ورق الفتية الذين ".. لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا".
لذا؛ فإنَّني أحسب الأخذ بعين الاعتبار استبدال التوجه الحالي الذي يعتمد على التعاميم التحذيرية والعِقابية بإستراتيجية استثمارية وِقائية؛ في فريق مشترك بين الجهات المسؤولة عن السياسات الشبابية والرقمية والابتكارية والمالية والنقدية والتعليمية، وتطوير قطاع الاتصالات، وجهات إنفاذ القانون، لتبني برامج توعية بالاقتصاد والنقود الرقمية، وإتاحة تراخيص مبدئية في صناديق رملية تحتضن شركات تقنية ناشئة لتُصبح نافعةً لروادها ومجتمعها كشركتي "ثواني" و"تيلي بي". وربنا أعلم بنا، هل تنجح مجتمعاتنا في الاستفادة من عِبَر هذه القصص، أم تنجح المؤسسات التي يغلب عليها تواضع اهتمامها بالقيادة الفِكرية والمسؤولية المجتمعة في عكس عقارب الزمن وإرجاع التقنيات المتقدمة في مِلتها.. ولن نُفلح إذن أبدًا؟!