سقوط بقناع غير تقليدي

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

وسط أروقة القصر العتيق، حيث مظاهر الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، تجلس صاحبة القصر على عرشها متأملة في مجد إمبراطوريتها التي امتدت عبر القارات، القصر يعج بالمستشارين والقادة، لكن خلف كل ذلك، كانت هناك همسات تتردد عن خروج بريطانيا العظمى من المنطقة (الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية).. عدة عوامل متشابكة، سياسية، اقتصادية وعسكرية، وتغيرات عالمية حدثت بعد الحرب العالمية الثانية "١٩٣٩ - ١٩٤٥"، كلها جعلت بريطانيا منهكة، وبات من الصعب عليها الحفاظ على عظمتها.. حيث تصاعدت مطالب الحركات التحررية في الهند، وفلسطين، ومصر، والعراق، وعدة دول أخرى بالاستقلال.

وفي مؤامرة مع الحركة الصهيونية قررت بريطانيا في عام ١٩٤٨م، الانسحاب من فلسطين وتسليم الملف للأمم المتحدة، ما أدى إلى قيام دولة الكيان اللقيط.. بدأت الحكومات العمالية والمحافظة في بريطانيا تتبنى سياسات تفكيك الإمبراطورية، والانتقال إلى نمط جديد من النفوذ الاقتصادي والسياسي بدلًا من الاحتلال العسكري، وبحلول الستينيات، كانت معظم مستعمرات بريطانيا قد حصلت على استقلالها إلا فلسطين.. لقد تم استبدال النفوذ المباشر بأساليب جديدة مثل التحالفات العسكرية والاقتصادية، ودعم الأنظمة الحليفة والحفاظ على المصالح التجارية.

في هذه اللحظة العابرة، وفي مسار تاريخي كانت "أمريكا" قد ورثت عظمة بريطانيا المتآكلة، ونهض الأمريكيون ببطء، حينما شعروا بشيء أشبه بالضباب يلف النظام العالمي نظروا من نافذة الرأسمالية والليبرالية الجديدة، وهم يشاهدوا سقوط القوة التقليدية العظمى.

كانت حركات التحرر لا تزال مشتعلة، لكن أينما وليت وجهك في شرق العالم أو غربه، هناك ضجيج للأمريكان وجعجعتهم، بدأ بسلسلة من الأزمات، الاقتصادية، العسكرية، وسياسية سرّعت من تراجع الهيمنة الغربية، كلها أسهمت في خلق ظروف أدت إلى تهجير قسري للشعوب، سواء من خلال الفقر، النزاعات، أو الكوارث البيئية، في خضم هذه الجعجعة دخلت منطقة الشرق الأوسط في حالة مكاء وتصدية فلك الإعلام الصهيو-أمريكي.

إننا هنا لا نقيم بين "بريطانيا" و"أمريكا" مطابقة آلية تمنعنا من رؤية الفوارق الكثيرة بينهما، لكننا نجتزئ بالملامح العامة التي يلتقيان عندها، وأول ذلك، الاستهانة بالأمم والشعوب وطمس حضارتها في سبيل فرض نموذج فظ غليظ سرعان ما يعيبه التاريخ.. إن الفترة التي تلت انسحاب بريطانيا من منطقة الشرق الأوسط، بدأت أمريكا بسط هيمنتها، وفرض تحكمها في السياسة الدولية كقوة عظمى.. دوت أبواق سقوط بريطانيا إلى الهاوية حينما زلت قدمها في فلسطين، وانسحابها من المنطقة "خاصة من الشرق الأوسط والخليج في الستينيات والسبعينيات" كان تحولًا استراتيجيًا سببه التراجع الاقتصادي والتغيرات الجيوسياسية، من هنا، يمكن رؤية بعض التشابهات بين زلة قدم بريطانيا، مع السياسة الترامبية اليوم، لكن مع فروق جوهرية، حيث إن انسحاب بريطانيا من قواعدها العسكرية في المنطقة والخليج سببه التكاليف الباهظة، وترامب في هذه اللحظة، يتبنى نهج "أمريكا أولًا"، فها هو بدأ في الضغط على الحلفاء لدفع تكاليف الدفاع عن أنفسهم.

بريطانيا انسحبت وركزت على إعادة بناء اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية، أما ترامب اليوم، يحاول إعادة التصنيع وتقليل الاعتماد على الخارج، بنفس المنطق، لكن في سياق حديث.. بريطانيا في الخمسينيات والستينيات لم تعد قادرة على لعب دور القوة العظمى، فبدأت بالانسحاب، في حين ترامب، لم يصل بعد إلى حد "الانسحاب"، لكنه واضحًا بأن أمريكا لن تتحمل عبء الدفاع عن العالم وحدها.

إذًا سياسات ترامب، تشبه إلى حد كبير انسحاب بريطانيا من حيث تقليل الالتزامات الخارجية، والتركيز على الداخل، لكنها لم تكن تخليًا كاملًا عن النفوذ العالمي، والفارق الأساسي هو أن بريطانيا انسحبت بسبب الضعف، بينما ترامب يغير في أسلوب النفوذ الأمريكي، لا يتخلى عنه، رغم أن سياسة ترامب ركزت على تقليل التدخلات الخارجية، إلا أنه يبدو أن أمريكا لن تتخلى عن دورها العالمي بالكامل، والإدارات القادمة ستعيد التدخلات بشكل أو بآخر، فحتى عندما حاولت أمريكا الانسحاب سابقًا ( بعد حرب فيتنام)، عادت سريعًا للتدخل في مناطق أخرى مثل منطقة الشرق الأوسط في الثمانينيات والتسعينيات، وقد لا تكون التدخلات القادمة بنفس الطريقة التقليدية، لأن العولمة بطبيعتها تفرض على أمريكا أن تبقى منفتحة، لأن الاقتصاد الأمريكي مرتبط بشبكة عالمية من التجارة والاستثمار والتكنولوجيا، ومحاولة الانعزال تمامًا ستكون مكلفة اقتصاديًا وستضعف نفوذها العالمي.. إذًا أمريكا لا تستطيع الهروب من التسطح العالمي، لكنها يمكن أن تتحكم بالعولمة لتخدم مصالحها.. وهنا يمكن القول إن السياسة الترامبية قد وضعت عالم اليوم تحت قناع إعادة تشكيل العولمة باتجاه أكثر قومية وحمائية، وعلى المدى القصير، تعزز السياسة الترامبية بعض القطاعات، مثل، الطاقة والتصنيع، لكنها تضر بالاقتصاد في مجالات أخرى، أما على المدى الطويل، إذا استمرت سياسات الحمائية الاقتصادية، فقد تجعل أمريكا أقل اندماجًا في الاقتصاد العالمي.. ها هو يجلس ترامب، وسيجلس من يأتي بعده على كرسي البحث عن تاج عظمة أمريكا، فهل يدرك ويدركون، أن السقوط إلى الهاوية أوله زلة قدم في القمة.

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة