جابر حسين العماني
يتحمَّل الكثيرُ من حكام العالم المسؤوليات الجسام العظيمة والمختلفة الملقاة على عاتقهم، ومن المسؤوليات المهمة التي يجب القيام بها هي إعطاء الوقت الكافي من عملهم لمراقبة ومحاسبة المسؤولين في الدولة؛ فهم يشغلون أهم المناصب والوظائف المرموقة في البلاد.
فكلُّ قرارٍ يصدُر منهم إمَّا أن يكون خيرا للناس فينتفع به الجميع، وإما تقصيرا في حقوق الناس فيضر الجميع؛ لذا فإنَّ مُراقبة ومُحاسبة ومُتابعة المسؤولين ومعرفة كيف تسير إدارتهم لشؤون البلاد والعباد، والتركيز على أدائهم الإداري والوظيفي، لهو من أهم الواجبات التي لابد أن يهتم بها الحاكم العادل في فترة حكمه، قال تعالى: "أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى"، وقال تعالى: "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ".
هناك بعض المسؤولين الكبار عندما تُتاح لهم المناصب الكبيرة والحساسة في الدولة ويصبحون ويُمسون وكل شيء مسخر بين أيديهم تأخذهم العزة والجبروت، فتراهم يتكبرون ويتغطرسون على من حولهم فتصل بهم الحال إلى نهب المال العام وسرقته وتسجيله بأسمائهم أو أسماء أبنائهم أو أسماء أقاربهم، مُتناسين حفظَ الأمانة التي أقسموا بالله تعالى أنْ يحفظوها، فتراهم يعيشون الفساد والإفساد مع أنفسهم ومع من حولهم، منغِّصين بأفعالهم العباد والبلاد، مُستغلين مناصبهم ونفوذهم كما يحلو لهم، لا كما يريد القانون والنظام العام للبلاد، وما أكثر هؤلاء المفسدين اليوم في مُجتمعاتنا العصرية التي انتشرت فيها سمعتهم المضلة في صناعة الفساد والإفساد في شتى المجالات المجتمعية، وأصبحوا من الذين يشاركون في تخلُّف البلاد العربية والإسلامية.
لذا؛ لابد للحاكم العادل أنْ يكون صريحاً صارماً دقيقاً واضحاً في محاسبة المسؤولين المقصرين حتى لو كانوا من المقربين إليه.
نعم.. قد لا يستطيع الحاكم مُتابعة كلِّ ما يدور في الدولة لكثرة المسؤوليات والمجالات المختلفة الملقاة على عاتقه؛ لذا من الواجب عليه إيجاد من يُعِينه من المسؤولين المخلصين الثقات الأخيار الأمناء الأوفياء الأتقياء الذين يمتلكون الخبرة الكافية لمساعدته وإعانته في مراقبة ومحاسبة المقصرين في أداء أعمالهم ووظائفهم، بل وينفذون خططه وسياساته بدقة ليستطيع الحاكم العادل ومن معه من المخلصين الأوفياء إدارة شؤون البلاد والعباد بالطريقة السليمة والصحيحة التي تجعل من المجتمع يسير نحو حياة أفضل وأجمل وأكمل.
عن أَبِى ذر قال قلت يا رسول الله: "أَلا تستعملنى"، قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: "يا أَبَا ذَرٍّ؛ إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنَّهَا أَمَانَةُ، وإنَّهَا يَومَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلَّا مَن أَخَذَهَا بحَقِّهَا، وَأَدَّى الذي عليه فِيهَا".
إنَّ المتأمِّل في حكومة الخليفة العادل الإمام علي بن أبي طالب يجد أن الرقابة والمحاسبة للمسؤولين والموظفين في الدولة كانت على رأس أولويات الإمام وسياسته الحكيمة التي كان يُنفذها بلا كلل ولا ملل؛ فقد كان ينصح ويوجه ويعاتب المسؤولين، وفي حال لم تنفع النصيحة والعتب والتوجيه كان يعزلهم عن تلك المناصب والوظائف التي يشغلونها ويعاقبهم على ما ارتكبوه من تقصير في حق الرعية.
رُوِي أنَّ أمير المؤمنين ولَّى أبا الأسود الدؤلي القضاء، ثم عزله، فقال له: لِمَ عزلتني وما جنيت وما خنت؟.. فقال: "إنّي رَأيتُ كَلامَكَ يَعلُو عَلى كَلامِ خَصمِكَ".
وبالمحاسبة والرقابة كان الإمام علي يحافظ على المسؤولين والموظفين الأمناء في الدولة الإسلامية من الوقوع في الفساد والإفساد، وبذلك أيضا يحمي حقوق الناس من الضياع والهدر والإسراف، ففي حكومة الإمام علي بن أبي طالب لا يُوجد وزير أو مسؤول محصن من الملاحقة والمساءلة القانونية والعقوبة الصارمة في حال أساء استخدام منصبه أو وظيفته أو مركزه في الدولة، فصون الأمانة، واحترام حقوق الناس، ومراعاة الضعفاء، ومحاسبة المسؤول الفاسد، واحترام تطبيق القانون، كان من أهم أولويات الإمام علي بن أبي طالب في خلافته، فمراقبة المسؤولين ومحاسبتهم ومتابعتهم المستمرة لها الكثير من النتائج الواضحة والكبيرة جدا، ومن أهم هذه النتائج الحفاظ على ممتلكات الشعب وصونها من النهب والاختلاسات والسرقات، وضمان احترام المسؤولين والموظفين للناس، وازدهار العدالة الاجتماعية في المجتمع، وتطبيق القانون، وانتشار الأمن والأمان في ربوع الوطن، ومن أجل تحقيق كل ذلك يتطلب أيضا من الدولة وحاكمها العادل ومن معه من تابعين ومسؤولين وموظفين مراعاة فاعلية الأداء الحكومي وكفاءته في العمل من قبل المسؤولين والموظفين، فمن المهم جدا نجاح الأداء الوظيفي في الحكومة فهو مقياس رئيسي وأساسي لتحقيق الغايات المراد تحقيقها بهدف ازدهار المؤسسات الحكومية، ونجاح الدولة المدنية وسرعة تقدمها بين الأمم.
وكما أنَّ فاعلية الأداء الوظيفي مهمة جدا لتحقيق الغايات المنشودة والمطلوبة، كذلك لابد من التركيز على إيجاد الكفاءات الوطنية القادرة على صنع النجاح والتطوير والتغيير، وهذا لا يكون إلا باحترام أمانة العمل، والجد والاجتهاد والإخلاص والوفاء للوطن والمواطنين وتفعيل المراقبة والمحاسبة المستمرة للمسؤولين والموظفين؛ من خلال الحاكم العادل والمخلصين التابعين له.